1061 مشاهدة
0
0
حشد من الأطفال المذعورين يحيطون بك، وفي داخل البيت الفقير متهالك الأثاث تتصاعد رائحة الدخان من عشرات اللفافات المشتعلة، وترى الوجوه المعتادة في أمور كهذه
الكلاب تنبح في الطرقات، ولا صوت سوى صوت أقدامنا على الأسفلت.. بينما بدأ المطر ينهمر .. إنها الثالثة بعد منتصف الليل، وأنا ألهث لأن الشاب – ابن الحاجة عفاف - الذي يمشي بجواري يتمتع بلياقة عالية. في النهاية ندخل تلك الحارة المظلمة لا يضيئها سوى مصباح واهن على باب بيت. فأر مذعور يركض جوار قدمي متواريًا، ثم نجتاز بابًا مفتوحًا .. كل شيء يشي بالموت ودنو لحظة الفراق الكئيبة.كان هذا في الزمن الذي كنت أقوم فيه بفحوص منزلية، وهذا يعني أننا كنا في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، وقد استدعيت لهذا الكشف عن طريق مستوصف أعمل فيه. كنت أعيش وحيدًا وقتها، وليس هناك من يقلق لخروجي في ساعة كهذه أو يرتاب فيه، وحتى لو تم خطفي وذبحوني وألقوا جثتي للكلاب، فعلى الأرجح لن يلاحظ ذلك أحد .. الأهم أن اللصوص والسفاحين لا يلاحظون وجودي كذلك ..
حشد من الأطفال المذعورين يحيطون بك، وفي داخل البيت الفقير متهالك الأثاث تتصاعد رائحة الدخان من عشرات اللفافات المشتعلة، وترى الوجوه المعتادة في أمور كهذه .. كلهم جاءوا للدفن .. الأعمام والأخ، والحاج فلان ابن الحتة الجدع الذي لا يترك جيرانه في كارثة كهذه. لابد من وجود لبيب كذلك .. لبيب صديق الأسرة الذي يعرف هذه الأمور، وهو من سيأتي بمن يقوم بالغسل ويبتاع الكفن. هناك دائمًا لبيب في كل أسرة، وعند المسلمين والمسيحيين سواء ..
دخلت متوجسًا إلى غرفة نوم ضيقة بائسة لأجد تلك السيدة المسنة – الحاجة عفاف - في الفراش .. مريضة جدًا كما هو واضح، لكني لا استطيع أن أضع يدي على شيء ما ..حاولت انتزاع أي كلمات منهم أو منها بلا جدوى. الفحص سليم تمامًا .. ضغط الدم أفضل مني .. الحرارة عادية .. التنفس منتظم .. جاءوا لي بعينة من بولها في كوب زجاجي كي أفحصه بحثًا عن سكر او أسيتون. لا شيء. صحيح أنهم جاءوا لي بعدها بمياه غازية على سبيل الضيافة، و قد وضعوا المياه الغازية في كوب مماثل لكوب البول تمامًا !، لكنهم اناس طيبون ورقيقو الحال لا شك في هذا ..
في النهاية قالوا لي وهم يرتجفون إن الطبيب الفلاني أجرى لها فحصًا بالأشعة الصوتية وقال إن هناك نسبة تليف في الكبد.. وقال آخر إن الأملاح عالية في دمها ..
هكذا فهمت .. طلبت اشعة تليفزيونية أخرى وجمعت حاجياتي لأنصرف، مفكرًا في رحلة العودة المرعبة. سألوني عن أجري فرفضت .. هي ليست مريضة وبالتالي أنا لم أفعل شيئًا .. في تلك الأيام كان المرء نقي النفس لا يقبل مالاً إلا إذا أنجز شيئًا ملموسًا .. طبعًا صرت اليوم رجلاً ناضجًا كالآخرين يسعده جدًا المال الذي لا يستحقه .. فقط أريد الكثير منه لو أمكن ..
فيما بعد عرفت أن الأشعة سليمة تمامًا كما توقعت ... وعرفت أن الحاجة العجوز نهضت ومارست حياتها بشكل طبيعي. لم تكن تلك الليلة هي الليلة كما يقول الغربيون .. لقد جعلها الأطباء تشعر بدنو نهايتها ورقدت في الفراش تنتظر وهي سليمة ..
فيما بعد رأيت من الأطباء من يرسل المريض ليجري تحليل صورة دم، ثم يعلن – قبل أن يرى التحليل – أن المريض مصاب بفقر دم، ويكتب له أقراص الحديد. هو كان ينوي عمل هذا منذ اللحظة الأولى، لكن لابد من هذه الطقوس، وبرغم أن الحديد لا يناسب كل أنواع فقر الدم، بل إنه يؤذي بعض الأنواع. هناك الطبيب الذي يرسل المريض ليحلل نسبة حمض البوليك في الدم، ومهما كانت النتيجة يعتبر أن المريض مصاب بالنقرس، ويدخله في دائرة منع اللحوم والكبد والشاي والقهوة والتدخين..
اختبار فيدال اختبار قديم فاشل يقيس وجود البكيتريا التي تسبب حمى التيفود. لاحظ أن اسمها حمى التيفود .. أي أن المريض يجب أن يكون محمومًا، ويجب أن يكون محمومًا منذ أسبوع على الأقل. لكن الأطباء يجرون اختبار فيدال لأي مريض يشكو من أي شيء حتى لو كانت حرارته عادية .. تأتي النتيجة مرتفعة غالبًا ولا قيمة لها على الإطلاق .. فيقول للمريض:
ـ"انت مصاب بنسبة تيفود في الدم"
الآن لم يعد المريض شخصا عاديًا. لقد صار (صاحب عيا) وهو يمشي حاملاً الأبحاث قلقًا، يفكر كل ليلة في الرقم الذي وصلت له نسبة التيفود اليوم، ويتعاطى أطنانًا من المضادات الحيوية الغالية وهو ليس مريضًا أصلاً .
أستاذنا السكندري العظيم حلمي أباظة قال لنا ساخرًا:
ـ"مصر ليست مصابة بوباء تيفود .. مصر مصابة بوباء فيدال !"
هناك موضة اخرى هي ما يسمونه اختبار بلهارسيا الدم، وهو اختبار لا قيمة له بدوره .. يخبرك فقط أن المريض أصيب ببلهارسيا يومًا ما، أي أنه موجب لدى كل من عاش في قرية، لكنه جلب ثروة طائلة للمختبرات .. وترى المريض يمشي مهمومًا كاسف البال يحمل مظروفًا سميكًا ويخبرك أنه مصاب ببلهارسيا الدم. طبعًا سوف يجري أشعة تليفزيونية فيقال له إن هناك نسبة تليف في الكبد، من ثم يكتب وصيته ويبتاع كفنًا ...
العيادات تلعب لعبة قاسية، هي أن تجعل الأصحاء يشعرون بأنهم مرضى جدًا .. ربما هي الحاجة للكسب والضغوط المادية الطاحنة، وربما هي الرغبة في أن يكون هناك (أكشن). أن يعيش المريض لحظات درامية قاسية إلى ان يقول له الطبيب باسمًا: مبروك .. اختفت بلهارسيا الدم !
اخلق مرضًا لا وجود له ثم عالج المريض منه .. للأسف هذه هي قاعدة العمل لدى أطباء كثيرين. والمشكلة الأكبر أن هناك مرضى يحبون جدًا أن يشعروا أنهم مرضى، وأن حالتهم خطرة ، ويكرهون بجنون الطبيب الذي يخبرهم أنهم بخير .. سوف اتحدث عنهم في مقال قادم إن شاء الله.
نشر في 25 آب 2019