1088 مشاهدة
0
0
ما الذي غير أسلوبهم تجاهه على هذا النحو؟! بل ما الذي حدث للمنزل كله؟! لماذا يتجاهله الجميع على هذا النحو؟! إنه كبير العائلة وعميدها، وولي نعمتها أيضاً، والمفترض أن يحيطه الجميع بالاحترام والتوقير والتقدير
ما الذي أصاب الكل؟!ما الذي غير أسلوبهم تجاهه على هذا النحو؟!
بل ما الذي حدث للمنزل كله؟!
لماذا يتجاهله الجميع على هذا النحو؟!
إنه كبير العائلة وعميدها، وولي نعمتها أيضًا، والمفترض أن يحيطه الجميع بالاحترام والتوقير والتقدير ..
ولقد كان هذا ما يفعلونه، قبل مرضه الأخير ..
كان الكل يرعاه، ويتملقه، ويبذل الكثير والكثير لاكتساب وده ..
ثم فجأة، لم يعد هناك من يبالي بوجوده ..
حتى ابنته الكبرى، التي اعتبرها دومًا أكثر أبنائه عطفًا وحنانًا، تجاهلته تمامًا، عندما ابتسم في وجهها هذا الصباح ..
كانت منهمكة في إعداد أشياء كثيرة، فلم تبالِ به إطلاقًا ..
وعندما صرخ في وجهها، وصاح مطالبًا إياها بالاحترام الواجب من الابنة تجاع والدها، أشاحت بوجهها عنه، وواصلت عملها بنفس الانهماك، وكأنما لم يعد يعنيها أمره قط .
يا لسخافة الدنيا !
الكل يلتف حولك، عندما تشرق لك الشمس، ثم ينفضون بسرعة البرق، مع أول قطرة مطر تنهمر عليك.
كان ينبغي أن يدرك هذا منذ البداية ..
وأن يعيه جيدًا ..
وخاصة مع حياته الحافلة، التي قضاها في العمل والكفاح ولجهد، حتى صار واحدًا من أشهر التجار، وأكثرهم ثراءً ومهابة ..
وطوال حياته الحافلة، لم يجرؤ مخلوق واحد في عائلته كلها على رفع عينيه في وجهه ..
كان هو الآمر الناهي، وصاحب الكلمة النافذة، في كل الظروف والأحوال ..
ولم لا. ما دام يطعمهم ويكسوهم جميعًا من ماله ..
وما دام هو الأقوى ..
والأكثر ثراءً ..
ثم إنه يختلف عن الكل ..
طيلة عمره يدرك أنه يختلف عنهم جميعًا ..
إنه أكثر براعة، وذكاءً، وحنكة ..
بالتأكيد هو يختلف ..
الآن بالذات يشعر بأنه يختلف عن كل من حوله ..
يختلف تمامًا ..
وهؤلاء الأغبياء لا يدركون هذا ..
وهذا أفضل ..
إنها فرصة، ليعرف حقيقة مشاعرهم نحوه ..
إنهم ما زالوا يحتفظون بصورته الكبيرة في نفس موضعها، في صدارة حجرة الصالون الكبرى، ولكنهم يتجاهلونه هو على نحو مستفز ..
كل منهم منشغل تمامًا في عمله، وفي الإعداد لذلك الاجتماع الذي يولونه كل اهتمامهم وعنايتهم ..
يا للمنافقين!
لو أنه لم يعان ِ من هذا المرض الأخير لما فعلوا به ذلك ..
لو أنه ظل قويًا كما كان دائمًا، لوضعوا ألف حساب لمشاعره..
أما الآن، فالكل يتصرف وكأنما لا وجود له ..
وكأنما انتهى كل شيء بمرضه ..
ولكنه يحمل لهم مفاجأة كبرى، لا يمكنهم تصورها قط ..
إنه لم يعد يعاني المرض ..
لم يعد يشعر بالضعف والعجز والألم ..
لم يعد مُقعدًا كذي قبل ..
ولكنهم يجهلون هذا تمامًا ..
وهذا أفضل ما في الأمر ..
دعهم يتصرفون ويتعاملون بتلقائيتهم المستفزة هذه، حتى تحين لحظة المواجهة الكبرى..
اللحظة التي سيدركون فيها الحقيقة ..
كل الحقيقة ..
وفي هدوء وصمت، جلس في الركن يراقبهم بعيني ذئب، وابتسامة ثعلب ماكر، يتابع فريسته في اهتمام، انتظارًا للحظة الانقضاض والفتك ..
ومن ناحيتهم، لم يوله أيهم أدنى اهتمام ..
لقد واصلوا عملهم، وتجهيزاتهم لحجرة المكتب الكبيرة، على نحو يوحي بأنهم في انتظار ضيف مهم للغاية ..
ومن بقعة ما في أعماقه، بدا له أنه يعرف طبيعة ذلك الضيف..
ومهنته..
لم يدرِ كيف أدرك كل هذا ..
ولكنه أدركه ..
بل وعلم أيضًا أنه سيأتي في تمام السابعة ..
وكم كانت دهشته، عندما صدقت تنبؤاته تمامًا ..
تُرى ما الذي يعنيه هذا؟!
ما الذي جعله قادرًا على التنبؤ والاستنتاج، على هذا النحو؟!
لقد قرأ الكثير في هذه الأمور، وعن البصيرة التي تتفتح للمرضى، و ..
ولكن هذا لا يهم الآن ..
المهم أن الضيف الذي يتوقعه قد وصل ..
وفي موعده تمامًا ..
إنه محاميه ..
يا للخائن!
هو أيضًا تجاهله تمامًا، ولم يلقِ عليه حتى التحية، وهو يدخل على حجرة المكتب، ثم ـ ويا للوقاحة ـ يجلس على مقعده هو!!
يا له من صفيق!!
في الماضي كان يقف طوال الوقت، ولا يجرؤ على الجلوس لحظة واحدة في وجوده ..
وهذا أمر طبيعي، ما دام يحصل منه على ثروة في كل عام.
ثروة يحلم بها أي محامي، في (مصر) كلها.
ولكن لماذا يدهشه هذا؟!
إنها طبيعة الدنيا ..
وطبيعة البشر ..
أقاربه كلهم اجتمعوا في حجرة المكتب، يتطلعون إلى المحامي في لهفة كبيرة ..
يا للأوغاد!!
لا ريب في أنهم يسعون لتجريده من ثروته ..
أو للحجر عليه، باعتبار أن مرضه قد أثر في قواه العقلية ..
ولكنه لن يسمح لهم بهذا ..
سيواجههم في اللحظة المناسبة، ويصرخ في وجوههم معلنًا الحقيقة..
حقيقة أنه لم يعد مريضًا ..
لقد استعاد صحته ..
وحيويته ..
ونشاطه كله ..
بل إنه يشعر بنشاط أكثر مما شعر به، في حياته كلها ..
وسيطلق هذا النشاط في وجوههم، التي تحمل كل لهفة الدنيا، وهم يستمعون إلى محاميه الخائن، وهو يقرأ عليهم وصيته، و ..
ولكن مهلًا !!
يقرأ وصيته؟!
ولكن هذا يعني أنه .. أنه ..
رباه! الآن أدرك فقط لماذا يشعر بأنه مختلف ..
ولماذا يشعر بكل هذا النشاط ..
الآن فقط أدرك لماذا يتجاهله الجميع ..
وهذا لأنه لم يعد ـ في الواقع ت يحيَّا معهم ..
أو مع أي مخلوق، في الدنيا كلها ..
لقد غادر الحياة كلها، وأصبح مجرد ..
شبح ..
عندئذ فقط، ومع إدراكه لحقيقته، لم يعد يبال بكل ما يحدث حوله ..
بأقاربه، ومحاميه.. وحتى ثروته ..
وفي استسلام حزين، راح ينسحب من حجرة المكتب، والمنزل ..
والدنيا كلها ..
إلى عالم يختلف ..
تمامًا ..
____
(د. نبيل فاروق ـ سلسلة كوكتيل 2000 ـ العدد 31 الدم)
نشر في 22 تموز 2016