980 مشاهدة
0
0
منذ فجر التاريخ، أدرك الإنسان أنّ لا أحد باستثناء جدّته الحنون سيتحمل عناء رواية قصة لطيفة له بدون مقابل، ولأن الرغبة بسماع القصص لم تمت بموت الجدّة، كان لا بد للإنسان أن يدفع مقابل هذه المتعة
منذ فجر التاريخ، أدرك الإنسان أنّ لا أحد - باستثناء جدّته الحنون - سيتحمل عناء رواية قصة لطيفة له بدون مقابل.. ولأن الرغبة بسماع القصص لم تمت بموت الجدّة، كان لا بد للإنسان أن يدفع مقابل هذه المتعة.. وهكذا ظهر الحكّاؤون والمهرّجون وصناديق الدنيا بل والفرق المسرحية التي تنتقل من بلد لآخر ومن خشبة مسرح إلى أخرى..مع اختراع السينما، كان الاتفاق نفسه لا يزال ساريا.. سنصنع لكم أَيُّهَا الجمهور قصة ممتعة تشاهدونها في ساعتين أو ثلاثة.. لكن في مقابل ذلك، عليكم أن تأتوا لمكان العرض وتدفعوا ثمن الكرسي.. وليضمن أولئك الصناع استمرار الجمهور في الحضور لمشاهدة قصصهم المصورة، كان عليهم أن يبذلوا جهودا عظيمة لجعل تلك القصص أكثر إمتاعا وفائدة..
مع اختراع التلفزيون، تغيرت المعادلة نوعا ما.. إذ لم يعد من الممكن تحصيل ثمن تذكرة الحضور مباشرة من المشاهد المسترخي في بيته.. وأصبحت صناعة القصص هذه مهددة.. وهنا تدخّل التجار لإنقاذ الأمر.. فقالوا لصناع القصص "لا عليكم.. استمروا بصناعة قصصكم المسلية هذه كالمعتاد ، ونحن سندفع التكلفة.. لكن بالمقابل، يجب عليكم في لحظات الذروة أن توقفوا عرض قصتكم الممتعة لنعرض إعلانات لبضائعنا.. " وهكذا كان.. وأصبح على الإنسان المتحرّق لسماع ومشاهدة ما تبقى من القصة الممتعة، أن ينتظر بضع دقائق ريثما تعرض بعض الإعلانات السخيفة عن معاجين الأسنان وشيفرات الحلاقة وأواني الطبخ التي لا يلتصق فيها الطعام..
ظاهريا، بدا أن المشكلة قد حلّت.. لكن الحقيقة أنها بدأت.. فمع مرور الوقت، أصبح هذا العنصر الثالث الذي دخل كوسيط بين صانع القصص والمشاهد هو المتحكم الحقيقي بالصناعة.. وأصبح على صناع القصص الاستجابة ليس فقط لرغبات المعلنين بل ولأصحاب القنوات التلفزيونية أيضا، التي لا يهمها شيء سوى استمرار تدفق المداخيل الإعلانية ولو تطلب الأمر أن يتم مطّ قصة يمكن روايتها في ساعة واحدة، لتصبح ثلاثين ساعة وتروى في ثلاثين يوما..
وسط هذا الانحدار العظيم، ظهرت شركة أمريكية اسمها "نت فليكس" أعادت الأمر إلى المربع الأول.. صانعوا قصص مقابل مشاهدين.. دون تدخل قنوات تلفزيونية ولا معلنين ولا سلطات سياسية حتى.. وهنا عاد الفن ليتحرر مرة أخرى من كل ما قيّده في السابق، ليصبح همّه الوحيد الإمتاع فقط.. وكما هو متوقع، نجح الأمر نجاحا عظيما.. مما حدا بالشركة لمحاولة التوسع خارج الولايات المتحدة، إلى مناطق أخرى، كان منها العالم العربي.. واختارت الأردن لإنتاج أول مسلسل عربي بعنوان "جنّ"..
طبعا المسلسل لم يرق أبدا إلى مستوى التوقعات، لا من ناحية الكتابة ولا التمثيل.. لكن أكثر الهجوم عليه كان بسبب الألفاظ الخارجة التي ظهرت فيه وبعض المشاهد العاطفية المبتذلة التي لم يعتد المشاهد الأردني رؤيتها في عمل يخص مجتمعه.. وطبعا أنا هنا ضد عبارة "المسلسل لا يمثل المجتمع الأردني" لأن العمل الفني ليس استطلاعا للرأي ولا بحثا علميا.. أي لا يفترض فيه تمثيل كافة شرائح المجتمع.. مسلسل مثل "الأمير الجديد لبيل إير" للممثل ويل سميث كان يتحدث عن عائلة سوداء غنية في الولايات المتحدة، وهو بهذا لم يكن "يمثل" السود بالمعنى الدارج ناهيك عن تمثيل الولايات المتحدة بتنوعها العرقي.. ومع ذلك فقد كان مسلسلا ناجحا جدا..
لكن الذي يمكن قوله بصدق، أن القضايا التي حاول المسلسل تمثيلها وإضاءتها ليست أبدا تلك القضايا التي تهمّ المجتمع الأردني كثيرا.. ولا العربي عموما.. بغض النظر عن أن أبطال المسلسل هم من عائلات غنية أم لا.. أي أن الهدف الأساسي للقصة كما كانت منذ عصر نيران الكهوف لم تتحقق.. لم يستمتع المشاهدون بالقصة.. ولم يحسّوا أبدا أنها تشبههم ويشبهونها..
نتفلكس، بالحرية التي تمتلكها فنيا وتجاريا ، وفي ظل كل هذا التضييق الذي يفرض على الناس هنا، كان الأولى بها فعلا أن تستغل منجم القضايا الغني هذا الذي يسمى الوطن العربي لعمل روائع فنية.. لكنها بدلا من ذلك اختارت عن جهل ربّما أن تستفز الناس ببعض القبلات الرخيصة و قضايا مثيرة للجدل مثل الشذوذ الجنسي وغيره..
عموما، يظل رأيي دائماً أن لا أحد يستطيع رواية قصصنا تشبهنا ونشبهها كأنفسنا.. لكننا ظننا لوهلة أن شركة من وراء البحار قد تفعل ذلك.. وكنا مخطئين..
وفي هذا السياق أتوجه بالشكر العميق للأستاذ محمود المسّاد وفيلمه "ان شاء الله استفدت" الذي يمكن بالفعل القول أنه يشبهنا ونشبهه.. مع إدراكي طبعا لكل العراقيل التي واجهته في التنفيذ..
#ديك_الجن
نشر في 14 حزيران 2019