Facebook Pixel
لا تنبُش بعمق!
1164 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

هي أديبة شابة من الجيل الذي بدأ قراءة قصصي في الصف السادس الابتدائي، ثم بدأ يجرِّب أن يكتب أشياءَ مماثلةً، ثم أشياءَ أفضل إلا أن صارت كلماته جديرة بحسدي وغيرتي

هي أديبة شابة من الجيل الذي بدأ قراءة قصصي في الصف السادس الابتدائي، ثم بدأ يجرِّب أن يكتب أشياءَ مماثلةً، ثم أشياءَ أفضل، وفي النهاية صارت كلماته جديرةً بحسدي وغيرتي. وجدتُ مقالًا قصيرًا لها، أقرب إلى قصيدة قصيرة تقول فيها ما معناه:

هو ذلك الحبيب المرهف … الفارس الوسيم الذي يحتوي وجودي كله. لا أعرف اسمه ولا شكله، لكني سأعرفه عندما أراه، سوف يصغي لهذياني ويحب نفس الكتب التي أطالعها، ويقرأ نفس أبيات الشعر. يبدأ اليومَ بتقبيل أناملي ويعانقني من حين لآخَر … يتبنَّى نفسَ أفكاري ويرى نفس آرائي، ويترك كلَّ شيء في العالم كي يأتي لي أنا … إلخ … إلخ.
هذا هو ما أذكره من الكلام طبعًا، وقد كتبَتْه بأسلوب رشيق راقٍ لم أحتفظ به للأسف. البنات بارعات فعلًا في كتابة هذه الأمور؛ لأنها جزءٌ من خلاياهن، بينما نحن الرجال نفتعلها أحيانًا، أو نكشطُ طبقاتٍ من الطين والدم والعَرق تكسو جلودنا لنصل لهذه المشاعر. كلُّ إنسان يحتاج لدرجة طاقة معينة للوصول لروحه، وأنت ترى سائق «التوك توك» الذي رفع صوت السماعات لأعلى درجة ممكنة، مع أغنية مهرجانات لا يمكن تحمُّلها، وبرغم هذا يُطرَب وينتشي … لم يكن ممكنًا الوصول لروحه بطريقةٍ أرقَّ أو أرقى أو أخفض صوتًا؛ بينما روح المرأة قريبة للسطح جدًّا، ولا تغطيها سوى طبقة من الجلد الرقيق، هذا بالطبع قبل أن يكسوها ركوبُ الميكروباص وزحام القاهرة بطبقةٍ كثيفة شبيهة بما يكسو روح الرجال.

أذكر في فيلم «سيدتي الجميلة» المأخوذ عن مسرحية بيجماليون لبرنارد شو، أن البروفيسور هجنز يسأل صاحبه من خلال أغنية طريفة: «بيكرنج … هل تتضايق لو لم أقل أحبك؟»

يقول بيكرنج وهو يدخن الغليون: «طبعًا لا.»

– «هل تنزعج لو نسيتُ عيد ميلادك؟»

– «كلام فارغ.»

– «إذن لماذا لا تصير النساء مثلك؟ بل لماذا لا تصير النساء مثلي؟»

لعل هذه الأغنية تعبِّر بحيوية عن الفارق بين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، بينما تقول فيروز في أغنيتها الساحرة:

«باكتب اسمك يا حبيبي عالحور العتيق … تكتب اسمي يا حبيبي عا رمل الطريق.»

راقَ لي كلامُ الأديبة جدًّا، وانبهرتُ بنعومته والعطر المنبعث منه كأزهار السوسن لو أن لأزهار السوسن رائحة. لاحِظْ من جديد أنني رجل لا أفقه الكثيرَ في أمور الأزهار هذه، لكني برغم هذا لم أرتَحْ للكلام بشكل مطلق.

قلتُ لها: «منتهى الرقَّة والعُذوبة، لكنها أقرب إلى نزوات الشعراء. معنى هذا أنكِ تبحثين عن رجلٍ يحبك أكثر ممَّا تحبك أمك … بل يحبك أكثر مما تحبين نفسك! وهذا يبدو لي مستحيلًا، وإنْ وُجِد فإليك القصة التالية:

منذ أعوام اكتشف أنيس منصور كاتبًا قصصيًّا إيطاليًّا لم يعرفه المصريون بعدُ؛ هو ألبرتو مورافيا، وقدَّمه لقرَّاء العربية بما أن أنيس كان يجيد اللغة الإيطالية. للرجل — مورافيا — بعضُ القصص التافهة فعلًا، لكنَّ بعض قصصه فائق الإمتاع، ومنها قصة جميلة مشهورة جدًّا في مجموعات مختارات القصص القصيرة، لا بد أن تجدها هناك مع العقد وضوء القمر لموباسان، والشقاء وموت موظف لتشيكوف، والمعطف لجوجول … إلخ. تحكي القصة — أتكلَّم من الذاكرة — عن رجل حائر هجرَتْه زوجتُه بلا سبب يعرفه … يقول الرجل إنه كان يوقظها صباحًا بتقبيل يدَيْها، ويجلب لها الإفطارَ في السرير … ثم يرتِّب الملاءات وينظِّف البيت؛ لأنه لا يريد لها أن تستنشق الغبار … برغم هذا اختفَتْ! فيذهب لصديقتها المفضَّلة يسألها عن زوجته فتقول له: «لا تنبُش بعمق.»

يذهب إلى والد حبيبته ويسأله عن ابنته … يقول لأبيها إنه قبِلَ ألَّا تُنجب كما أرادَتْ حتى لا تشوِّه جمالها. كانت تخرج فلا يسألها إلى أين هي ذاهبة، تطلب مالًا فلا يسألها عن سبب طلبه، فعل كلَّ شيء كي يُشعِرها بالحرية والراحة. يقول له حموه: «لا تنبُش بعمق.»

يذهب الزوج الحائر إلى معلِّمة زوجته التي كانت تحبها جدًّا، فيقول لها إنه كان لا يشاهد سوى البرامج التلفزيونية التي تختارها زوجته، ويظل صامتًا في ساعات نومها حتى لا يضايقها، كما أنه كان يأخذ ثيابَها للمغسلة ويعود ليعلِّقها في الخزانة. تقول له المعلمة: «لا تنبُش بعمق.»

تنتهي القصة هنا، لكننا قد استطعنا فهم سبب رحيل الزوجة، وهو السبب الذي استنتجه الجميع. لقد تركَتْ زوجَها برغم أنه كان يعامِلها كأمٍّ رءوم، ويخدمها كوصيفة مخلصة … في الواقع هي تركته لأنه كذلك!

لا تنبُش بعمق … فلسوف تصيبك الدهشة وخيبة الأمل عندما تدرك أنك في الواقع كنتَ تفقدها، وكنتَ تظفر بنفورها منك بكل هذا الخنوع والطاعة العمياء. سوف تدرك أنك كنتَ أحمق.»

قلتُ للصديقة: «الحياة أخذٌ وعطاء، وشجار وصلح، ونفور وضيقُ خلقٍ وتذمُّر، وعصبية وهدوء، وحنان وقسوة … هذا الرجل الذي تتكلَّمين عنه أقرب إلى وصيفة مخلصة وفيَّة، ولن تتحمليه أكثر من أسبوع واحد حتى لو كان يلثم أناملك ويعانقك كل ربع ساعة.»

كانت لي قريبة تصف هذا النوع من الرجال بأنه «النوع اللزج»، يجثم على روحك كأنه طنٌّ من جوز الهند المبشور أو طائر سمين دَسِم. لا أعتقد أن هذا النوع من الرجال موجود بكثرة، ولحسن حظ صديقتي وحظه؛ هو نادر الوجود. من حقِّها أن تكتب هذا الكلام الرقيق كما تريد، لكن ساعة الزواج لا أنصحها أبدًا باختيار رجل لا ينبُش بعمق!
_____
نشر في ٢٩ يونيو ٢٠١٥
روايات مصريـة
نشر في 10 كانون الثاني 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع