1685 مشاهدة
1
0
إن المغرب قد سطع نجمه، واكتسب سمعة طيبة في العالم الإسلامي، وهيبة في العالم النَّصراني الأوروبي، كما توافدت عليه سفارات التهنئة بالنصر، وسفارات كسب الود والصداقة وحسن الجوار
معركة وادي المخازنفي عام(981هـ = 1574م) تولى عرش الدولة السعدية بالمغرب محمد المتوكل خلفا لوالده عبد الله الغالب. وكان المتوكل فظا غليظا مستبدا ظالما، قتل اثنين من إخوته عند وصوله إلى الحكم، وأمر بسجن آخر، فكرهته الرعية، إلاّ أن هذا المتعجرف السَّفاك للدماء لم يهنأ بملكه حيث قام عماه أبو مروان عبد الملك وأبو العباس أحمد بالتحالف مع العثمانيين في الجزائر، وسافر عبد الملك إلى القسطنطينية عاصمة الخلافة العثمانية، وطلب من السلطان سليم الثاني نجدته ومعونته، إلا أن السلطان العثماني انشغل بتخليص تونس من يد الأسبان، فجهز قوات عثمانية بقيادة سنان باشا واستطاعت أن تحرّر تونس من الإحتلال النصراني الإسباني، وكان عبد الملك في تلك الحملة وأبلى فيها بلاء حسناً، ثم كان هو أوّل من أبلغ بشارة الفتح إلى السلطان، فجازاه على ذلك بأن أمر والي الجزائر بمده بالجنود والعتاد حتى يرجع إليه حقه المغصوب في الحكم.
وما أن وصل جيش عبد الملك المدعوم من قبل الخلافة العثمانية فاس حتى خرج إليه ابن اخيه محمد المتوكل على الله، وكتب الله النصر لعبد الملك في معركة قرب مدينة فاس، وفرَّ المتوكل من المعركة، وكان ذلك سبب خراب ملكه، وإقامة ملك عمه، ودخل عبدالملك مدينة فاس يوم الأحد السابع من ذي الحجة عام (983هـ =1576م) ، ثم ضمَّ مرَّاكش، ففرَّ المتوكل إلى جبال السُّوس. وبذلك استتب لعبد الملك أمر المغرب، وأصبح يلقب بالسلطان المعتصم بالله. وقد نال عبد الملك خبرة واسعة في شؤون الإدارة والجيش، والسياسة في الجزائر أثناء احتكاكه بالعثمانيين، فما إن تولى حكم المغرب، حتى عكف على تنظيم الجيش تنظيماً جديداً، على غرار الجيوش العثمانية.
وكان المتوكل، لما فر إلى جبال السوس جعل يتنقَّل بين قبائلها وأحيائها، إلى أن اجتمعت عليه طائفة من الصَّعاليك، وشكَّل ما يشبه الجيش استهوتهم منه الأضاليل والوعود وقادهم إلى مرَّاكش فدخلها، إلاَّ أن أحمد أخا عبد الملك جاء من مدينة فاس ففرَّ المتوكل إلى السُّوس ثانية، ومنها إلى سبتة، ثم دخل طنجة مستصرخًا بسبستيان الأول ملك البرتغال، وطلب منه أن ينجده بجيوشه ضد عمه على أن يسلمه السواحل المغربية ويحتفظ هو بالمناطق الداخلية، فوافقه الملك البرتغالي على ذلك، لأنه رأى فيها فرصة ينفذ بها إلى المغرب والسيطرة عليه. وقد حذر ملك إسبانيا فيليب الثاني ابن أخته سبستيان من عاقبة التوغل في أرض المغرب، كما حذره كبار دولته عاقبة هذا الخروج، ونهوه عن توريط البرتغال في بلاد المغرب وقبائله، فصمّ عن سماع ذلك كله، ولجّ في رأيه، وملَك الطمع قلبه، وأبى إلاّ الخروج.
أبحرت السفن الصليبية من ميناء لشبونة باتجاه المغرب وأقامت في لاغوس بضعة أيام، ثم توجهت إلى قادس حيث أقامت أسبوعا كاملاً، ثم رست بطنجة، وفي طنجة التقى سبستيان حليفه المتوكل، ثم تابعت السفن سيرها إلى أصيلة، وأقام سبستيان بطنجة يوما واحدا، ثم لحق بجيشه.
كانت الصرخة في كل أنحاء المغرب : أن اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله، ولم يكن عند المسلمين أعظم من الشهادة، فهذه التعبئة الشعبية ستتكامل لتكون جيشًا ذا معنويات عالية، وذا تصميم أكيد على النصر، وزاد الموقف تفاؤلاً بالنصر، أن القيادة كانت في مستوى الطموح الشعبي والإحساس الإسلامي. ففرار المتوكل واستنجاده بعدو البلاد، والتجاؤه إلى قوى صليبية طامعة حاقدة أجج حماس الناس، وضاعف شعورهم بالخطر على مصير البلاد، ولم تَنْطَل عليهم ادعاءاته عندما كتب إلى أهل المغرب: «ما استصرختُ بالنصارى حتى عـدمت النصرة مـن المسلمين»، وتهددهم قائلاً: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (279)} [البقرة]. فأجابه علماء الإسلام عن رسالته برسالة دحضت أباطيله وفضحت ركيك تأويله.
كتب عبد الملك من مراكش إلى سبستيان: «إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك، وجوازك العدوة، فإن ثَبتَّ إلى أن نقدم عليك فأنت نصراني حقيقي شجاع، وإلا فأنت كلب بن كلب». فلما بلغه الكتاب؛ غضب، واستشار أصحابه: «هل نقيم حتى يلحق بنا من خلفنا من أصحابنا؟»، فقال المتوكل: «الرأي أن نتقدم ونملك تطَّاوين والعرايش والقصر، ونجمع ما فيها من العدة ونتقوى بما فيها من الذخائر». فأعجب هذا الرأي هيئة أركان سبستيان وقادة جنده الذين أشاروا برمي الكتاب عرض الحائط، ولكن سبستيان تريث رغم إشارة رجاله.
وأرسل عبد الملك لأخيه أحمد المنصور وكان نائبه على مدينة فاس وأعمالها أن يخرج بجند فاس وما حولها، ويتهيأ للقتال، ثم كتب إليه أيضا في شأن مؤونة الجيش. وهكذا سار أهل مراكش وجنوبي المغرب بقيادة عبد الملك المعتصم باالله، وسار أخوه أحمد المنصور بأهل فاس وما حولها وكان اللقاء قرب محلَّة القصر الكبير.
كان الجيش البرتغالي يقدر بـمئة وخمس وعشرين ألف مقاتل، ضم اضافة للبرتغالين 20000 إسباني، 3000 ألماني، 7000 إيطالي، و 4000 من الدولة البابوية، مع ألوف الخيل، وأكثر من أربعين مدفعاً، وكان معهم المتوكل بشرذمة تتراوح ما بين 300 إلى 600 رجل. وأما الجيش الإسلامي بقيادة عبد الملك المعتصم باالله فيقدر بـ 40000 مجاهد يملكون تفوقًا في الخيل، ومدافعهم أربعة وثلاثون مدفعا فقط، إضافة إلى قوات عثمانية بعثها والي الجزائر لصد الغزو البرتغالي، بناء على أوامر من السلطان العثماني مراد الثالث، والتي قدرت بنحو 4000 أو 5000.
اختار عبد الملك المعتصم باالله القصر الكبير مقرا لقيادته، وخصص من يراقب تحركات سبستيان وجيشه بدقة، ثم كتب إلى سبستيان مستدرجا إياه إلى ميدان المعركة الذي اختاره
: «إني قطعت للمجيء إليك ست عشرة مرحلة، فهلا قطعت أنت مرحلة واحدة لملاقاتي؟». فنصحه رجاله والمتوكل أن يبقى بأصيلة، ليبقى على اتصال بالمؤن والعتاد والبحر، ولكن تشوقه إلى الحرب وغروره بمن معه من قوات ومدفعية، جعله يرفض نصيحة أركانه، فتحرك قاصدا القصر الكبير. ووصل الضفة الشمالية لوادي المخازن فشاهد طلائع الجيش المغربي المسلم متجهة نحوه.
عبر سبستيان ومن معه جسر وادي المخازن حيث خيم قُبالة الجيش الإسلامي. وفي جنح الليل، أمر عبد الملك أخاه أحمد في كتيبة من الجيش بنسف قنطرة جسر وادي المخازن إتماما للخطة التي وضعها، فالوادي لا معبر له سوى هذه القنطرة. وهكذا عزل عبد الملك عدوه عن أُسطوله بالشاطئ بمكيدة عظيمة، وخُطَّة مدروسة حكيمة.
وجعل سبستيان مدفعيته في المقدمة أمام جيشه، وفي الوسط أربع كتائب رئيسة تحيط به، وجعل الفرسان على المجنبتَين مع حراسة خلفية، وتجمعت شرذمة حول المتوكل في الميمنة. أما عبد الملك فقد جعل مدفعيته في المقدمة، تليها مباشرة صفوف للرماة المشاة، وجعل قيادته في القلب وعلى المجنبتين رماة فرسان والقوى الشعبية المتطوعة. وامتازت خطة عبد الملك بوجود كوكبة احتياطية من الفرسان ستنقض في الوقت المناسب، وهي في غاية الراحة، لمطاردة فلول البرتغاليين واستثمار النصر.
وفي صباح الإثنين 30 جمادى الآخرة الموافق للرابع من آب عام(986هـ = 1578م)، وقف السلطان عبد الملك المعتصم بالله خطيبا في جيشه مذكِّرا بوعد االله للصادقين المجاهدين بالنصر، كما ذكَّر بوجوب الثبات، وذكرهم بحقيقة مهمة جداً عندما قال: «إن انتصرت الصليبية اليوم فلن تقوم للإسلام بعدها قائمة». ثم قُرئت آيات كريمة من كتاب الله بأصوات ندية اشتاقت للشهادة. وفي المقابل لم يألُ القسس والرهبان في إثارة حماس جنودهم، مذكِّرين إياهم أن البابا أحلَّ من الأوزار والخطايا أرواح من يلقون حتفهم في هذه المعركة.
وانطلقت عشرات الطلقات النارية من الطرفين كليهما إيذانًا ببدء المعركة. ورغم تدهور صحة السلطان عبد الملك الذي رافقه المرض وهو في طريقه من مراكش إلى القصر الكبير، خرج بنفسه ليرد الهجوم الأول، منطلقًا كالسهم شاهرا سيفه يفتح لجنده الطريق إلى صفوف البرتغاليين، ولكن المرض غالبه فغلبه، فعاد إلى محفَّته. وما هي إلاّ دقائق حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وأطبق أجفانه وهو موقن بالنصر الذي وعد االله به عباده الصادقين المؤمنين المجاهدين. وأمر هذا الرجل عجب في الحزم والشجاعة، لقد مات وهو واضع سبابته على فمه، مشيرا أن يكتموا الأمر حتى يتم النصر، ولا يضطربوا، وكذلك كان، فلم يطَّلع على وفاته إلاّ حاجبه رضوان، وأخوه أحمد المنصور، وصار حاجبه يقول للجند: «السلطان يأمر فلانًا أن يذهب إلى موضع كذا، وفلانًا أن يلزم الراية، وفلانًا يتقدم وفلانًا يتأخر».
ومال أحمد المنصور بمقدمة الجيش على مؤخرة البرتغاليين، وأوقدت النار في بارود البرتغاليين، واتجهت موجة مهاجمة ضد رماتهم أيضا، فلم يقف البرتغاليون لقوة الصدمة، فتهالك قسم منهم صرعى، وولَّى الباقون الأدبار قاصدين قنطرة نهر وادي المخازن، فإذا هي أثر بعد عين، نسفها المسلمون بأمر السلطان عبد الملك، فارتموا بالنهر فغرق من غرق، وأُسر من أسر، وقتل من قتل. وهلك سبستيان وألوف من حوله بعد أن أبدى صمودا وشجاعة تذكر. وحاول المتوكل رمز الخيانة، الفرار شمالاً، فوقع غريقًا في نهر وادي المخازن، ووجدت جثثه طافية على الماء، فسلخ وملئ تبنًا، وطيف به في أرجاء المغرب حتى تمزق وتفسخ.
وبويع أحمد المنصور سلطانا على المغرب بعد انتصار وادي المخازن، وكتب إلى القسطنطينية مقر الخلافة العثمانية يعلم السلطان مراد الثالث، وإلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب، يعلمهم بما أنعم الله عليه من نصر حاسم عظيم، وإخفاق الغزو البرتغالي الصليبي لأرض المغرب واستئصال شأفته، فوردت عليه الرسل من سائر الأقطار مهنئين مباركين له بما فتح االله عز وجل على يده، وكان أول الوفود من أقرب الأقطار، من الجزائر، ثم جاءت رسل ملك البرتغال الجديد هنريك الأول -وهو الشقيق الأصغر لجوان الثالث ملك البرتغال جد سبستيان-، جاءت تحمل هدية عظيمة، وجاءت رسل ملك الإسبان فيليب الثاني تحمل هدية أعظم، ثم قدمت رسل السلطان العثماني ومعهم هديته، وبعدها جاءت رسل ملك فرنسا هنري الثالث، والرسائل تصبح وتمسي على أعتاب القصر.
ولم يصدق البرتغاليون هلاك ملكهم سبستيان، وادعوا بأنه وقع في الأسر، ولما سلمت جثثه إليهم؛ قالوا بأنه لم يمت، وإن له عودة مؤكدة في المستقبل. وأمسى البرتغاليون يسمرون بأخباره، ولا تزال البرتغال تذكره، وله ذكر في أشعار الشعراء الأوربيين على اختلاف جنسياتهم. والتمس ملك البرتغال الجديد من السلطان أحمد المنصور فداء الأسرى، فأجابه إلى طلبه، وحصل بسبب ذلك على أموال طائلة.
والجدير بالذكر أن معركة وادي المخازن تعرف في المصادر التاريخية باسمين آخرين، هما: معركة الملوك الثلاثة ومعركة القصر الكبير، وقد استغرقت أربع ساعات وثلث الساعة، وكان من نتائجها أنها وجهة ضربة قاضية للبرتغال، فلم تقم لها قائمة بعدها. كذالك فبعد وفاة هنريك الأول سنة 1580 م؛ دخلت البلاد في صراع على العرش انتهى بانتصار فليب الثاني ملك إسبانيا، وتتوجيه ملكا على البرتغال باسم فيليب الأول سنة 1581 م، لتصبح بذالك البرتغال تابعة لإسبانيا، وتفقد استقلالها.
أما المغرب فقد سطع نجمه، واكتسب سمعة طيبة في العالم الإسلامي، وهيبة في العالم النَّصراني الأوروبي، كما توافدت عليه سفارات التهنئة بالنصر، وسفارات كسب الود والصداقة وحسن الجوار.
نشر في 17 أيلول 2016
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع