1202 مشاهدة
0
0
ميراث لاينقطع.. وما ستفعله بمن هم أصغر منك سوف يكررونه مع من هم أصغر منهم عندما يكبرون بل ربما يكررونه معك أنت هل بدأت أتحذلق وأتفلسف؟
هذه المرة أرجو أن تعد لي كوبا حقيقيا من الشاي بدلا من هذا الماء الأصفر الساخن الذي تعده في كل مرة. الشاي الجيد في رأيي هو الذي تمسك بالكوب منه فلا تري أصابعك من الجهة الأخري.. ويجب أن تكون كميته قليلة جدا، فأنا غير راغب في الانتحار..سوف أحكي لك اليوم قصة جميلة قرأتها قديما في مجلة "المختار من الريدرز دايجست".. مجلة (المختار) كانت تصدر عن دار أخبار اليوم في مصر، وكانت مهمتها أن تقدم لنا وجها جميلا للسياسة الأمريكية والحياة في أمريكا.. مجلة لها نفس سحر مارلين مونرو ونفس مذاق الكولا وظرف ميكي ماوس ودونالد دك، ولأسباب كهذه كانت بعض علامات الاستفهام تحوم حولها دائما، في ذلك الزمن كانت لفظة (العالم الحر) لها مذاق استعماري أمريكي خانق، وكان موقف أمريكا ملتبسا، فهي مازالت واعدة كمحررة العالم بعد الحرب العالمية الثانية، لكن بعض الأنياب بدأت تظهر مع مشاكل كوبا وقصة خليج الخنازير وغزو لبنان وسحب تمويل السد العالي ووقف تصدير القمح.. الخ.. ثم زاد الطين بلة مع قضية مصطفي أمين الشهيرة، وفي لحظة ما توقفت تلك المجلة لأعوام، ثم عادت لنا هذه المرة من بيروت.. وأشهد أن الصورة الأولي للمجلة بطباعتها الرخيصة وألوانها الباهتة وورقها الذي لايصلح ورقا للجرائد، كانت أروع وأكثر إمتاعا.. دعك من ترجمتها الرشيقة. الترجمة اللبنانية تثير أعصابي غالبا، خاصة عندما تتحول السويد بمعجزة ما إلي (أسوغ)، والطماطم والخيار يصيران (بندورة) و(كبيس) بالترتيب، واللبان (علكة)، ويظهر ممثل اسمه (غريغوري بيك) وآخر اسمه (كلارك غابل)، دعك طبعا من (البوظة) التي هي الآيس كريم بالترجمة اللبنانية، بينما عندنا تعني كارثة وليلة في التخشيبة.
أسمعك تطالبني بأن أدخل في الموضوع.. طيب.. طيب.. ياأخي راع سني التي تدق باب الخمسين في حماسة، وراع تصلب الشرايين. يبدو أن الاستطراد علامة مهمة علي تصلب شرايين المخ.. لاشك في هذا..
كانت هناك كتب ومقالات معينة تشد انتباهي جدا في مجلة المختار هذه.. مثلا كانت هناك رسالة جميلة يكتبها أب لابنه الصغير النائم اسمها (بابا ينسي)، وقد ظللت أبحث عنها طويلا حتي وجدتها في أحد المنتديات الليبية. صحيح أنهم اختصروا منها كثيرا جدا لكنها ظلت قمة في الابداع. هناك قصة بالصور الفوتوغرافية علي عدة صفحات.. المتكلمة واضح أنها طفلة تقول: "أحب القطط الصغيرة.. أحب الثلج.. أحب العصافير.. أحب الشيكولاته.. أحب لعب الكرة بعد المدرسة.. الخ.. الخ" في نهاية القصة نري وجه طفلة زنجية جميلة دامعة هي التي كانت تحكي لنا القصة، ومعها عبارتها الأخيرة: "أتساءل... لماذا لايحبني بعض الناس؟؟؟"
أما القصة التي سأحكيها لك فهي تجربة حقيقية مرت بكاتب المقال الأمريكي في طفولته..
إننا نحمل في خلايانا الدروس التي تلقيناها في طفولتنا، ولا نستطيع منها فكاكا. نحن سجناء بيئتنا وطريقة تربيتنا الأولي.
كان المؤلف في السابعة من عمره وكان يهيم غراما بمتجر المستر جونز الموجود علي قارعة الطريق.. السبب طبعا هو أنه متجر لبيع الحلوي.. هناك عبر النافذة المطلة علي الشارع كان يقف ليرمق العالم السحري بالداخل، قطع الجاتوه المكسوة بالشيكولاته والكريم وقد غرست فيها أعلام صغيرة أو أعواد ثبتت عليها الفواكه المسكرة. التفاح المكسو بالسكر.. تماثيل مختلفة من الشيكولاته، وقلعة شيدت منها تقف فوق جبل من الكريمة. عشرات الأنواع من حلوي النعناع التي تذوب في الفم تاركا نارا لها نشوة..
لم يكن يملك قط المال اللازم لشراء مايريد، فهو من أسرة فقيرة، وهو يعرف أن أسعار هذه الأنواع من الحلوي تفوق قدراته..
إلي أن جاء اليوم الذي ادخر فيه مايكفي..
اقتحم المحل فدق الجرس الصغير المعلق بالباب يخبر مستر (جونز) أن هناك زبونا. خرج العجوز الطيب الذي يضع عوينات تنزلق علي قصبة أنفه، وتأمله وهو يجفف يده في منشفة، وسأله:
ـ "ماذا تريد أيها الرجل الصغير؟"
اتجه المؤلف الصغير إلي قطع الجاتوه وأشار لها بثقة:
ـ أريد خمس قطع من هذه.."
ابتسم العجوز ودس يده في قفازين وانتقي للفتي بعض القطع التي طلبها، وهو يتلقي التعليمات: "لاأريد التي عليها قشدة كثيرة.. لتكن الشيكولاته"
في النهاية أغلق العجوز علبة صغيرة ونظر للصبي متسائلا، فأشار إلي التماثيل المصنوعة من الشيكولاته:
ـ "أريد هذا القط وهذا الحصان.. أريد هذا القصر الصغير.. هل هذه عربة؟.. ضعها لي"
قال مستر (جونز) في شيء من الحذر:
ـ هل معك نقود تكفي هذا كله؟"
ـ "نعم.. نعم"
الآن انتقي بعض حلوي النعناع، وكان هناك الكثير من غزل البنات الذي مازال ساخنا فأنتقي منه كيسين، واختار بعض الكعك..
في النهاية صارت هناك علبة كبيرة معها كيس عملاق امتلأ بالأحلام، وسأله مستر جونز:
ـ "هل هذا كل شيء؟.. سأحسب.."
هنا مد المؤلف الصغير يده في جيبه وأخرج ماله.. أخرج قبضة من البلي الملون الذي يلعب به الأطفال ووضعه بحذر في يد العجوز، وقال في براءة:
ـ "هل هذا كاف؟؟"
لا يذكر المؤلف التعبير الذي ارتسم علي وجه مستر (جونز).. مايذكره هو أنه صمت قليلا، ثم قال بصوت مبحوح وهو يأخذ البلي:
ـ "بل هو زائد قليلا.. لك نقود باقية"
ثم دس بعض قطع العملة في قبضة الصبي، ومن دون كلمة حمل الصغير كنزه وغادر المتجر.. لقد نسي هذا الحادث تماما ومن الواضح أن أمه لم تكن فضولية، كما يبدو أنه لم يجرب ذلك مرة ثانية.. فيما بعد غادرت الأسرة المنطقة وانتقلت إلي نيويورك..
الآن صار كاتب المقال شابا في بداية العمر، وقد تزوج بفتاة رقيقة اتفق معها أن يكافحا ليشقا طريقهما.. كان كلاهما يعشق أسماك الزينة لذا اتفقا علي افتتاح متجر لهذه الأسماك..
في اليوم الأول انتثرت الأحواض الجميلة في المكان، وقد ابتاعا بعض الأسماك غالية الثمن.. وكما هو متوقع لم يدخل المتجر أحد..
عند العصر فوجئ بطفل في الخامسة من عمره يقف خارج الواجهة وإلي جواره طفلة في الثامنة.
كانا يرمقان الأسماك في انبهار..
وفجأة انفتح الباب وتقدمت الطفلة وهي تتصرف كسيدة ناضجة تفهم العالم، أو كأنها أم الصبي.. وحيت المؤلف هو وزوجته وقالت:
ـ "أخي الصغير معجب بالأسماك لذا أريد أن أختار له بعضها.."
قال لها إن هذا بوسعها بالتأكيد، لكنه شعر بأن هناك شيئا مألوفا في هذا الموقف. متي مر به من قبل؟.. لعله واهم؟..
اتجهت الفتاة إلي حوض أسماك المقاتل السيامي وهي باهظة الثمن رائعة الجمال، واختارت اثنتين فأحضر المؤلف دلوا صغيرا والشبكة وبدأ ينقل ماتريد.. ثم اتجهت إلي حوض أسماك استوائية نادرة واختارت ثلاث سمكات... وكانت تصغي لاختيارات أخيها الذي يهتم بالأسماك الكبيرة زاهية اللون طبعا..
في النهاية امتلأ الدلو ووجد نفسه يقول لها:
ـ "أرجو أن تعودي للبيت سريعا قبل أن ينفد مافي الماء من هواء، كما أرجو أن يكون مامعك من مال كافيا فهذه ثروة صغيرة"
قالت الطفلة في ثقة:
ـ "لاتقلق.. فقط ضع لي هذه وهذه"
بدأ يجمع ثمن ماوضعه في الدلو، وذكر الرقم المخيف للطفلة، لكنها لم تبد مدركة لمعني الرقم أصلا.. مدت يديها في جيبها وأخرجت قبضتيها مليئتين بحلوي النعناع وبعثرتها علي المنضدة أمامه وسألته في براءة:
ـ "هل هذا كاف؟"
هنا شعر بالرجفة.. لقد تذكر كل شيء.. تذكر صبيا في السابعة يجمع كل مافي محل المستر (جونز) من حلوي منذ خمسة وعشرين عاما أو أكثر.. تذكر البلي.. تري بم شعر المستر جونز وقتها؟..
لن تسأل كيف تصرف فقد تصرف فعلا.. رباه!.. ماأثقل الميراث الذي تركته لي يامستر جونز وما أقساه..!
كان مستر جونز قد وجد نفسه في موقف حساس، ولم يستطع أن يجازف ببراءة الصبي أو أن يشعره بالحرمان.. لم يتردد كثيرا.. وبالمثل لم يتردد المؤلف..
قال بصوت مبحوح للطفلة وهو يجمع حلوي النعناع ويضعها في الدرج:
ـ "بل هو زائد قليلا.. لك نقود باقية"
ودس في يدها الصغيرة بعض قطع العملة، فقالت في رضا:
ـ شكرا ياسيدي.. سأخبر كل صديقاتي عنك!"
وغادرت المحل مع أخيها.. هنا وثبت زوجته من حيث جلست تتابع هذا الموقف وصاحت في توحش:
ـ "هل تعرف ثمن السمك الذي أخذته هذه الطفلة؟.. إنه يقترب من خُمس رأس مالنا!"
قال لها وهو يرمق الصغيرين يهرعان تحت شمس الطريق:
ـ "أرجو أن تصمتي.. لقد كان هناك دين يثقل كاهلي علي مدي خمسة وعشرين عاما نحو عجوز يدعي مستر جونز، وقد سددته الآن!!"
انتهت القصة..
لو لم تجدها جميلة أو لم تشعر بقشعريرة وأنت تقرؤها، فالعيب يعود إلي تلخيصي لها. هذه المقالات لاتلخص وإنما تعاش.
الآن فكر في هذا جيدا..
سوف تكتشف أن نسيجك الأخلاقي يتكون من عشرات بل مئات المواقف التي اجتزتها مع والديك أو معلميك، وهذه المواقف تركت لك في كل مرة دينا يجب أن تفي به. كثيرا ماننسي هذا الدين.. ولاتحسب الأمر سهلا.. عندما بكيت أمام أبي لأنني لاأذكر شيئا من منهج الجغرافيا والتاريخ ليلة الامتحان، وضع يده علي كتفي وجلس يراجع لي المنهج حتي مابعد منتصف الليل.. عندما تكرر ذات الموقف مع ابني اعتبرته مستهترا. المصري الذي استضافني أسبوعين كاملين في بيته في ذلك البلد العربي إلي أن وجدت شقة، وبرغم هذا عندما استأجرت شقة صار من الصعب أن أستضيف معي شخصا لاأعرفه. الأستاذ الذي أشرف علي رسالتي العلمية الأولي، صادف الكثير من الأخطاء في المراجع فأصلحها ولم يعلق، بينما انفجرت أنا غيظا عندما رأيت أخطاء المراجع في أول رسالة أشرف عليها في حياتي. لكني أحاول أن أتصرف مثل الأستاذ الأول.. أحاول..
ميراث لاينقطع.. وما ستفعله بمن هم أصغر منك سوف يكررونه مع من هم أصغر منهم عندما يكبرون.. بل ربما يكررونه معك أنت..
هل بدأت أتحذلق وأتفلسف؟.. يبدو أن شايك هذا من نوع غير نقي.. لم أسمع عن شاي يلعب بالرءوس لكن هذه هي الحقيقة..
أقترح أن تعد لنا كوبا آخر وتنسي الموضوع.. سأجد لك موضوعا أفضل..
نشر في 08 نيسان 2019