1414 مشاهدة
2
0
ارتجف جسدها وهي تسير في حذر وتوتر عبر الممرات الضيقة لذلك البيت، الذي يبدو صغيراً من الخارج وشديد الاتساع والتشابك من الداخل، قصة رعب كتبها الكاتب نبيل فاروق
ارتجف جسد (روابي) وهي تسير في حذر وتوتر عبر الممرات الضيقة لذلك البيت، الذي يبدو صغيرًا من الخارج وشديد الاتساع والتشابك من الداخل، على نحو لم تتوقعه أو تتصوره..كان الظلام يحيط بها من كل جانب، فيما عدا أضواء خافتة تنتشر هنا وهناك، ولا يمكنها تحديد مصدرها بالضبط..
ومن زمن بعيد كانت تسمع أصواتًا مخيفة..
أصوات تشبه أنفاس كائن ضخم غامض..
ولكن لم يكن بوسعها التراجع..
خطيبها (ماهر) حذرها من دخول هذا المكان..
حذرها أكثر من مرة..
ولكنها عاندت..
وكابرت..
وأصرت على دخوله..
الكل يتحدث عن الرعب الموجود داخله..
الكل روى تجربته الرهيبة فيه..
ولكنها لم تتراجع..
كانت تريد أن تثبت للجميع أنها قادرة على تخطي الصعاب..
أيا كانت..
ولكن الحديث من الخارج شيء والوجود داخل المكان نفسه شيء آخر..
الظلام وحده له تأثيره..
في الخارج كانت الأضواء في كل مكان..
ومع الضوء يذهب الخوف..
حقيقة علمية بشرية بسيطة عرفها حتى الإنسان الأول، فكان يستيقظ مع أول ضوء ويختبئ مع آخر ضوء..
فالظلام يعني المجهول..
وكل كائن حي يخشى المجهول..
غريزة بشرية طبيعية تجعل الناس أعداء ما يجهلون..
ولكنها نشأت على نحو مختلف تماما..
والدها الراحل كان يحدثها دوما، عن ضرورة مواجهة المجهول..
أي مجهول..
كان يرى دوما أن الخوف هو الغريزة التي تعترض دوما طموح البشر وتعوق تقدّمهم..
ولقد نقل إليها تعاليمه..
وبوسيلة عملية للغاية..
كلما كانت تخشى مجهولا كان يدفعها رفقا لمواجهته، حتى لا يصير مجهولا فيذهب الخوف مع معرفته..
وطوال حداثتها وشبابها، كان هذا هو المبدأ الذي اتبعته..
التصدي للمجهول..
ومواجهته..
واقتحامه..
ولهذا أصرّت على دخول هذا البيت، على الرغم من تحذير الجميع..
وها هي ذي تسير في ممراته المظلمة وتستمع بكل توترها، إلى الأصوات التي تنبعث في كل صوب فيه..
كانت تتقدّم في بطء حذر، عندما شعرت فجأة بجسم يحتك بقدميها، ثم يسرع مبتعدا، دون أن تراه..
وعلى الرغم منها، وثبت مطلقة صرخة فزع..
ورددت الممرات صرختها، ممتزجة بما ضاعف من خوفها..
بصدى ضحكة شريرة ساخرة..
توقفت في مكانها لاهثة تتساءل عن ذلك الشيء الذي مر بها واحتك بقدميها..
ومع الرعب الذي بدأ يتسلل إلى نفسها راحت تتساءل: أكان من الحكمة أن تجازف بدخول هذا البيت؟!
وهل ينبغي لها أن تتراجع؟!
لم يطاوعها كبرياؤها على التراجع، في وجود (ماهر) الذي ينتظرها عند المخرج الآخر للبيت
فقررت المضي قدما في طريقها، أيا كان ما ستجده..
سارت بضع خطوات أخرى تصاعدت معها تلك الأنفاس الآتية من كل مكان، كما لو أنها تسير داخل وحش حي وليس مجرد بيت..
ثم فجأة، سطع ضوء ما أمامها..
وبحركة غريزية، أغلقت عينيها..
وعندما فتحتهما ارتجف جسدها كله في قوة..
فقبل أن يتلاشى هذا السطوع بلحظة واحدة لمحت ذلك الجسم الذي سرق أمام عينيها في سرعة، قبل أن يختفي في الجدار..
شيئان كبيران أشبه بأجنحة خفاش يرفرفان على جانب امرأة عجوز، لها أبشع وجه رأته في حياتها..
وصرخت مرة أخرى..
صرخت..
وصرخت..
وصرخت..
ثم كتمت أنفاسها، خشية أن يسمع من بالخارج صراخها..
يا له من رعب!
كان ينبغي أن تستمع إلى نصيحة (ماهر)..
ولكنها الآن داخل البيت..
ولن تتراجع عن عبور ممراته..
حتى النهاية..
التقطت نفسا عميقا في محاولة لتهدئة ثائرتها، ثم دفعت قدميها دفعا لتواصل طريقها، عبر ممرات البيت التي طليت باللون الأسود، وكأنما حرص صاحبه على أن يكون كل شيء فيه مخيفا..
ومع كل خطوة تخطوها كانت تلك الأنفاس المخيفة تعلو..
وتعلو..
وتعلو..
ثم فجأة، بدأت أضواء غريبة تتراقص..
وعلى الأضواء المتراقصة، بدت لها تلك المشاهد المخيفة..
رءوس بشرية، تملأ الجدران..
رءوس مقطوعة ارتسم عليها فزع بلا حدود..
وبعضها كانت الدماء تواصل النزف منها..
وكتمت صرختها، ولكنها راحت تلهث في عنف، مع الانفعال الجارف الذي سرى في كيانها كله..
وبدأت خطوتها تتسارع في محاولة للابتعاد عن ذلك المسخ البشري..
ولكن فجأة، ارتطمت قدمها بجسم ملقى على الأرض فسقطت إلى جواره..
ومع سقوطها ظهر ضوء خافت لا تدري من أين انبعث بالضبط، ولكن كان كافيا لترى ذلك الذي سقطت إلى جواره..
لقد كان جسدًا بشريًا مقطوع الرأس، وملقى أرضًا..
تراجعت في سرعة وحاولت النهوض، إلا أنها تعثّرت مرة أخرى من شدة فزعها مما اضطرها إلى الاستناد على ذلك الجسد، ليعاونها هذا على النهوض..
وكم هالها هذا!
كان الجسد باردًا ميتًا يبعث ملمسه قشعريرة عجيبة على أي إنسان..
وما أن نجحت في النهوض حتى انطلقت تعدو، مبتعدة عنه..
ومع ابتعادها خفتت الأضواء..
كل الأضواء..
وساد ظلام دامس..
ومع الظلام التام لم تعد تدري أين طريقها بالضبط..
ووفقا لنفس القاعدة السابقة تضاعف رعبها مع الانعدام التام للرؤية..
ولأن ممرات البيت ليست مستقيمة، وإنما ملتوية على نحو عجيب لم يكن أمامها سوى أن تتحسس الجدران حتى تجد سبيل الخروج..
وقد فعلت..
الجدران لم تكن ناعمة أو مستقيمة أيضا..
كانت وكأنها مصنوعة من أحجار غير منتظمة..
وكانت عليها مادة لزجة ضاعفت توترها واشمئزازها وخوفها..
ولكنها واصلت طريقها وراحت تتلمس الجدران اللزجة وهي تتحرك في بطء، و..
وانطلقت من حلقها صرخة مدوية، مع انتفاضة جسدها الضعيفة عندما لامست يدها جسما طريا باردا، ما أن لمسته حتى انزلق في سرعة مبتعدا عن أصابعها..
ووثبت (روابي) جانبا، وقد سيطر عليها ذلك الرعب الغريزي..
رعب المجهول..
فذلك الشيء الذي لمسته كان أشبه بثعبان كبير..
أو بسحلية ضخمة..
وهي موجودة معه في مكان واحد..
وفي ظلام دامس..
انتفضت بضع لحظات في رعب إلا أن خروجها من ذلك البيت صار أكثر حتمية، فمدت يدها في ضرر، تتلمس الجدار مرة أخرى مواصلة طريقها، وهي تتمنى رؤية ولو بصيص ضئيل من الضوء يهديها إلى طريق الخروج..
ولكنها ارتطمت فجأة بجدار آخر..
جدار يسد طريق الخروج..
تمامًا..
وبكل رعبها راحت تدور بيدها في الجدران قبل أن تكشف حقيقة مرعبة..
لا يوجد طريق للخروج..
ولا يوجد حتى طريق للعودة..
حتى الطريق الذي أتت منه، لم يعد له وجود..
جدران أربعة تحيط بها من كل جانب..
لقد صارت سجينة داخل بيت الرعب هذا..
أصابها هذا الشعور برعب كبير، فراحت تصرخ..
وتصرخ..
وتصرخ..
ومع صرختها دارت يدها للمرة الخامسة تتحسس الجدران من حولها، و..
وفجأة شعرت بأحد الجدران يتحرك مع ضغط يدها فرفعته بشيء من القوة وشعرت به يدور حول نفسه..
ومن خلفه بصيص ضوء من بعيد..
إنه المخرج..
حمدًا لله.. إنه المخرج..
عبرت ذلك الجدار، واتجهت في سرعة نحو بصيص الضوء الذي بدا أنه يأتي من منحنى في نهاية الممر، وحثت الخطى لتبلغه، قبل أن يعترض طريقها فجأة ذلك الشيء المخيف..
هيكل عظمي، سقط نصفه العلوي فجأة أمامها على نحو جعلها تقفز من مكانها فزعة قبل أن تلهث هاتفة:
ـ حتى أنت ستعترض طريقي!
ما أن نطقتها، حتى تجمد جسدها كله رعبًا..
ففي بطء اعتدلت جمجمة الهيكل العظمي والتفتت إليها كما لو أن الحياة قد دبّت فيه مرة أخرى..
ثم فجأة اشتعلت عيناه بضوء أحمر رهيب..
وانبعثت تلك الضحكة الساخرة الشريرة..
وبكل رعبها صرخت (روابي) واندفعت عبر الفراغ الذي يفصل جمجمة الهيكل العظمي عن الجدار وانطلقت تعدو بكل قوتها نحو المخرج..
وكم شعرت بالارتياح لأنه بالفعل المخرج كان من ذلك البيت الرهيب..
بيت الرعب..
"يا إلهي! تبين في هيئة رهيبة".
هتف (ماهر) بالعبارة وهو يعدو نحوها فحدقت فيه بوجه شاحب دون أن تنبس ببنت شفة، فاحتوى كفها بين راحتيه وهو يقول مشفقًا:
ـ حذرتك من الدخول.
غمغمت في شحوب، ينافي وجهها:
ـ كنت أتصور أنني أكثر شجاعة من هذا.
ابتسم مشفقًا، وهو يقول:
ـ ولكن هذا البيت يختلف.. إنهم يستخدمون تقنيات ومؤثرات متقدمة للغاية..
أومأت برأسها إيجابًا بنفس الشحوب وتطلعت إلى أضواء مدينة الملاهي، ثم إلى اللافتة، التي تعلو بيت الرعب قبل أن تغمغم:
– صدقني.. إنها مؤثرات قوية للغاية.
وبينما تبتعد معه، خيّل إليها أنها ما زالت تسمع صدى تلك الضحكة..
الضحكة الشريرة..
الساخرة.
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
نشر في 28 آذار 2019