3829 مشاهدة
1
0
الراعي حين يطعم الغنم ويحميها من الذئب فلا يفعل ذلك لمصلحتها هي، بل لمصلحته هو وفي حين أن الغنم تقضي عمرها خائفة من الذئب، فإن من يأكلها في نهاية الأمر هو الراعي
الراعي..وأنا أقلب أوراقي اليوم، عثرت على صورة قديمة لجدي.. كنت في السادسة من عمري عندما رأيته لأول مرّة.. كان يعيش في قرية بعيدة، وأخذتني أمي لنقضي إجازة الصيف هناك..
بعد سفر طويل لثلاث ساعات، وصلنا إلى القرية.. وتوقفت السيارة في باحة طينية أمام كوخه البسيط.. سلم علي بيده الخشنة ونظر مطولا إلى عيني.. كان في عينيه بريق غريب لا يوحي بالارتياح.. لكنني لم أحفل بذلك.. نقد السائق أجرته وحمل الحقيبة الضخمة بيد واحدة ودخلنا إلى الكوخ..
الطابق الأرضي كان مقسوما إلى جزئين.. في الجزء الأيمن غرفة جلوس كبيرة تتناثر فيها مقاعد خشبية يكسوها صوف ملون ويزين جدارها رأس لذئب أسود.. وفي الجهة المقابلة مطبخ صغير.. وبينهما درج خشبي يقود إلى العلية التي تحتوي غرفتين.. نزلنا أنا وأمي في إحداها..
بعد أن ارتحنا قليلا.. حضرت أمي إبريقا من الشاي وجلسنا كلنا في غرفة الجلوس نتحدث.. تكلم عن أبي قليلا.. ثم تكلم عن جدتي الراحلة.. وبعدها استرسل في الحديث عن غنمه.. كان يملك قطيعا من الغنم ويؤويه في زريبة خلف الكوخ.. وكان فخورا جدا أنه الراعي الوحيد في القرية الذي لم يستطع الذئب أن يأكل أيا من غنمه.. وتفاخر برجولته أنه هو من قتل هذا الذئب الأسود الكبير.. كانت أمي فرحة كثيرا بأبيها وطلبت منه أن يأخذني معه لرعي الغنم علني أصبح شجاعا مثله..
في الصباح الباكر، أخذني معه لرعي الغنم.. كان مهووسا بأغنامه ويحبها أكثر من أي شيء آخر.. كان لا يفعل شيئا سوى مراقبتها وعدها.. وكان دائما يحذرني أن أغفل عنها كي لا يأكلها الذئب.. وحتى عندما كنا نعود من الرعي في المساء.. كان يتأكد بنفسه أن المشرب مليء بالماء، وهنالك كفاية من الطعام.. وأن باب الزريبة مغلق تماما.. كنت معجبا جدا بحبه لأغنامه وكيف هي أيضا تحبه.. لم يكن يحتاج للنداء على أي منها.. كن يتبعنه أينما ذهب..
ذات يوم .. وجدته يأتي لغرفتي ويوقظني قبل المعتاد.. كانت الشمس لم تشرق بعد.. أيقظني بهزة من يده.. وأشار إلي أن أتبعه بصمت قبل أن تستيقظ أمي.. خرجنا من الكوخ في الفجر البارد.. وذهبنا نحو زريبة الغنم.. لم تكد الأغنام تراه حتى اقتربت منه.. فتح الباب وأخرج اثنتين فقط.. كانت كل الغنمات يردن الخروج لكنه اكتفى باثنتين فقط.. وذهبنا نحن الأربعة إلى خلف الزريبة..
ما أن وصلنا هناك.. حتى أمرني أن أمسك واحدة حيث لا تهرب.. لم يكن هنالك حاجة لأمسكها.. لكنني فعلت ذلك بخوف وترقب.. كان جدي واقفا بثبات والغنمة الأخرى تمسح رأسها بفخده.. فجأة رأيته يمسكها بقوة ويطرحها أرضا.. وقبل أن يفهم أي من ثلاثتنا ما الذي يحدث.. كان قد أخرج سكينا طويلة من اللا مكان.. وبيد لا ترتعش ذبح تلك الغنمة المسكينة.. وألقاها على الأرض تنزف وتنتفض..
حاولت الغنمة الأخرى الهرب.. وبدأت قوائمها الأربعة تتحرك بشكل عشوائي وهي تخوض في دم أختها.. لم يكن في يدي أو قدمي أي قوة لمنعها.. لم أكن أقل ارتعاشا منها.. لمح جدي كل شيء وكان أسرغ منا.. أمسكها من قدمها.. وجرها إليه.. وبينما أغمضت عيني.. كانت المسكينة تصرخ صرخة الموت الأخيرة.. كان هنالك كرسيان حجريان.. جلس جدي على أحدهما وطلب مني أن أجلس على الآخر.. وبينما أشعل لفافة تبغ, انكمشت أنا على مقعدي أراقب البخارالذي ينبعث من الدم الساخن في برد الفجر.. كان الحيوانان المسكينان لا يزالان يتحركان.. وانتهى بهما الأمر مكومين فوق بعضهما البعض.. وينظران بعيون جامدة نحو جدي..
عندما أشرقت الشمس.. قام بسلخ الحيوانيين.. ثم ذهب بعد أن اغتسل وأطعم بقية القطيع الذي قابله بحبور وبهجة.. قامت أمي بعدها بمساعدة القرويات بطبخ وليمة كبيرة كان جدي أقامها لعمدة القرية..
لم أذهب معه بعدها للرعي.. تذرعت بالمرض.. وبعد يومين غادرت أنا وأمي القرية , ولم أره بعد ذلك.. أخبرتني أمي لاحقا أنه مات محموما.. وأننا لن نذهب هنالك مرة أخرى.. واختفى ذلك الجد المخادع من حياتي.. لكن ذلك الفجر البارد لم يختف أبدا .. وعلمني عن الدنيا اكثر مما علمني أي شيء آخر..
اليوم فقط ، عندما دققت في صورته، عرفت ما هو الشيء الذي كان ينفرني منه.. كان يملك عيني ذئب.. غير أن الغنمات المسكينات لم يكن يرين ذلك.. كن ببساطة يحببنه..ويتبعنه أينما ذهب.. أينما ذهب..
####
واعلم يا فتى أنما الراعي حين يطعم الغنم ويحميها من الذئب فلا يفعل ذلك لمصلحتها هي، بل لمصلحته هو..
وفي حين أن الغنم تقضي عمرها خائفة من الذئب، فإن من يأكلها في نهاية الأمر هو الراعي.. لكنها تحبه وتثق بما يفعل لها فلا ترى غدره.. وعندما تراه فلات حين مندم.. وفي ذلك مما حولنا الكثير..
من رسائل المعلم فرحان إلى الفتى ذي الرأسين..
#نظرية_الراعي
#كتابات_ديك_الجن
نشر في 21 أيّار 2016
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع