861 مشاهدة
0
0
في يوم ما سيراودني الموت عن نفسي وأقبل وستحصل المعجزة ويلتقي المخلوق أخيراً بخالقه وسيستقطع هذا الإله العظيم من وقته ليتكلم معي أنا المخلوق الضعيف
في صباي-1-
في صباي، كنت مفتقدا تماما لمبدأ الثقة بالنفس.. وكان شعوري بالرضا عن نفسي ينبع بشكل أساسي من رضا الناس عني..
لذلك - ولكي أتوازن - كنت بحاجة ماسّة لإثارة إعجاب الناس، أو انتباههم على أقل تقدير..
لكن المشكلة كانت تكمن في أنني لم أكن أمتلك أي شيء يثير الإعجاب.. لم أكن وسيما مثلا.. أو صاحب قوام ممشوق.. لم أكن رياضّياً.. سياسيّاً ولا متحدثا لبقا، ولا كازانوفا يوقع النساء في حبائله.. ولا حتى متميزا في المجال الأكاديمي.. باختصار، لم أكن بارزاً في شيء.. كنت مسطّحاً تماما كلوحٍ من الرخام..
ولحل هذه المعضلة.. قمت بتقليد عدة شخصيات ممن رأيت أنهم يثيرون اهتمام الناس، والفتيات على نحوٍ أدقّ.. وغالبا ما كانوا من أبطال المسلسلات والأفلام.. قلدت طريقتهم في الكلام، طريقتهم في المشي، وحتّى طريقتهم في اللباس وتصفيف الشعر..
كان شكلي يختلف باختلاف الشخصية التي أقلدها..والفيلم الذي أشاهده.. فإذا كانت الشخصية لقائد عسكري قاس القلب.. تراني حليق الرأس واللحية ، حادّ النظرات.. ومرتديا ملابس سوداء توحي بالشرّ.. وإذا كانت الشخصية لمثقف فنّان.. تراني مطلق الشعر واللحية .. ناعس النظرات، متهدل الملابس.. وأدخن كقطار.. وأتحرك وأمشي كأن مشاكلي الوجودية أكبر من هذا العالم الصغير..
وهكذا تنوع مظهري بتنوع كل شخصية قلّدتها واعتبرتها الأكثر جذبا.. كنت قاتلاً مأجوراً، قبطاناً بحرياً، جنديّاً.. فناناً.. رجل دين وقور.. بل حتى مهرجا في بعض الأحيان.. لكن كل تلك الألاعيب المثيرة للشفقة لم تصنع مني رجلاً.. ولم تجلب لي سوى السخرية.. والتي ربما تقبلتها بعض الأحيان باعتبارها اهتماما من نوع مختلف..
وبعد فترة من الخواء الروحيّ القاتل، قررت أن أخلع جميع تلك الأقنعة.. وأن أكون نفسي فقط.. وسواء أثار ذلك إعجاب الناس أم لم يثر.. لا يهمّ.. المهم أن لا أقلّد أحداً وأن أصنع شخصيتي بنفسي..
بدأت أقرأ كثيراً وأشاهد أفلاماً كثيرة.. وكلما وجدت شيئا جيداً التزمت به، وكلما وجدت خصلة سيئة ابتعدت عنها.. رويداً رويداً بدأت ملامح شخصيتي تتشكل.. وصار عندي بعض الأصدقاء الذين أعجبتهم كما أنا.. بل وبعض الصداقات من الجنس الآخر.. ولم أعد ألهث وراء إعجاب الناس ، مع أن المديح كان يسعدني جداً.. مهما حاولت إخفاء ذلك..
اليوم، وبعد عشرين عاماً.. ينظر الرجل في داخلي إلى ذلك الشاب المهزوز مشفقاً عليه، وعلى اهتمامه المبالغ فيه بحصد الإعجاب..
ويعتقد هذا الرجل الجالس الآن على قارعة منتصف العمر، أن الإعجاب البسيط الذي يتلقاه الآن بعد نضوجه، هو شيء جميل.. وإن كان يأتي في قاع أولوياته وحروبه التي يخوضها على كل الصّعُد.. وربّما يطمح فقط ألّا يجرح من يحبّهم و يحبّونه.. ويحلّ مشاكله الكبرى بعيداً عن الحب والإعجاب..
ومن يدري.. ربّما ينظر رجل عجوز بعد عشرين عاماً أخرى إلى الرجل والفتى بأسىً ويقول..
"يا ليتني مِتُّ قبل هذا.. وكنت نسياً منسيا"
-2-
في صباي، نشأت في قرية صحرواية لا يتعدى عدد بيوتها المائة.. لذلك كانت كل طفولتي تتمحور حول قيادة دراجتي بعيدا عن القرية أو اللعب في بيت طيني مهجور..
في تلك المرحلة، لم تكن النقود تعني لي أي شيء.. كان جل اهتمامي هو اللعب ومراقبة حيوانات الصحراء.. وخصوصا الضبّ..
لكن عندما انتقلت للعيش مع جدّتي في عمّان.. ودخلت مدارس وكالة الغوث.. بدأت القطع المعدنية اللامعة تأخذ معنىً آخر.. كانت تعني شطيرة كاملة بدلا عن نصف شطيرة.. أو علبة عصير أفضل.. أو ممحاة جيدة.. أو مسطرة..
في سنين المراهقة، كنت أنا وأصدقائي من نفس الطبقة.. لذلك لم تكن النقود تعني لي إلا سجائر أكثر.. وربّما وجبة لذيذة من ذلك الدجاج الذي كنت أراح يتحمّر من خلف حاجز المطعم الزجاجي..
إدراكي لأهمية النقود وتأثيرها في حياتي بدأ بشكل أساسي عندما دخلت إلى الجامعة.. هنالك كانت النقود تعني فروقا واسعة بين الناس..
كانت تعني ملابس أفضل.. أحذية أفضل.. ساعة لمن لم يملك ساعة.. كانت تعني عدم الخوف من موعد التسجيل.. أو تأجيل الدفع.. وفي أحيان كثيرة.. كانت تعني أن يبيت المرء طاوياً..
والجوع لمن لا يعرفه - أو يعتقد أنه جوع رمضان - شيء مختلف.. الجوع لا يعني أن لا تكون قادرا على تناول الطعام.. الجوع هو أن تكون جائعا و تشم الطعام وأنت تعلم أنك غير قادر على شرائه.. بدون حاسة الشمّ لا يعمل الجوع.. بدون هذه الحاسّة لا يحس الإنسان بالجوع الذي يقترب من الانكسار..
وكبرت.. وتخرجت.. وقررت أن أعمل وأعمل وأعمل حتى لا أجوع.. وحتى يكون لدي ما يكفي من هذه الأوراق السحرية المسمّاة النقود.. لكي لا أحلم بها في منامي مرة أخرى..
عملت.. وكسبت نقودا وتزوجت.. وأصبحت موظفا يلعن مديره وقواعد مديره في كل صباح، يفكر في مستقبل أطفاله، ويتمنى لو كانت الرواتب ضعف ما هي عليه.. والإيجارات نصف ما هي عليه..
لم أعد جائعا لكنني بقيت مرهونا لفكرة أن أجمع الكثير من المال.. ولهذا عملت من شروق الشمس حتى غيابها..
الآن أنا على حواف الأربعين.. أمتلك سيارتين، ، بيتا واسعا، عملا خاصا، ومكتبا أنا أضع القواعد فيه.. ويذهب أطفالي إلى مدارس خاصّة مكلفة، ليمثلوا فيها مسرحيات تحث على مساعدة الفقراء..
في صباي.. كانت النقود بالنسبة لي شيئا هامّا وأساسياً.. ومن أجلها ومن أجل ما تمثل.. عملت بجد طول عمري.. ولا أزال.. وأخطط في العشر سنوات القادمة أن أشتري العقارات و أن أصل لحريتي الاقتصادية..
لكن من يدري.. ربّما بعد عشرين عاماً من الآن.. قد يجلس رجل عجوز ما، وحيداً في حديقته.. يتناول عدة أقراص من الدواء ويحمل صور أطفاله الذين تزوجوا و تركوه ، ليقول أنه طول الرحلة كان يحاول فقط أن يملأ سيارته بالوقود ويسبق الآخرين .. وفي غمرة انشغاله بالسباق ، لم يلاحظ حتى كيف كان شكل الطريق.. و الآن انتهى السباق .. لكنه لم ينته إلى السعادة... انتهى إلى لا شيء..
-3-
في صباي، كان مفهوم الله غامضاً تماما بالنسبة لي.. لم أستطع تخيّل كيف يكون الله موجوداً في كل مكان وكيف يرى كل شيء ويسمع كل شيء.. وفي نفس الوقت، أنا عاجز عن أن أراه..
وعندما كبرت قليلاً، وبدأت مشوار ذنوبي بذنوب صغيرة مثل كذب بريء أو إفطار يوم في رمضان.. كان الأهل والمعلمون يخوفونني عقاب الله الشديد.. وناره التي تذيب الحديد والصخور.. فبدأت أتخيل الله كرجل عجوز غاضب، يمسك عصاً كبيرة ويجلس فوق الغيوم.. وهو جاهز في أي لحظة ذنب منّي أن يضربني بعصاه الغليظة لأهوي في جهنّم سبعين خريفاً.. وكان ذلك مرعبا جداً بالنسبة لي كطفل..
وكبرت بعدها.. وكبرت ذنوبي معي.. ولكنني اعتبرتها حاجات بشرية أكثر منها تحديّا لله ولقوانينه.. وكنت عندما أذنب، أطلب من الله السماح على الذنب الحالي مع تفهّم الذنب القادم.. لأنني بشر ضعيف.. والبشر يخطئون..
ثم جاء الشباب.. وجاءت مرحلة الفسق والفجور.، بل وكنت من السخافة أن بدأت أشك في وجوده.. وأدعوه لإقامة العدل..
واستخدمت كل معرفتي الدينية السابقة وطلاقة لساني في مهاجمة الناس فقط.. وبدا لي أنني أذكى من أولئك العجائز الذين يمضون يومهم فوق سجادة الصلاة يقولون أشياء مكررة..
وفي فترة ما.. توازنت روحيّاً ودينياً وتبت عن كل ما فعلت.. وتقربت من الله حتى رجوته أن يستخدمني.. وأن يجعلني جنديّاً من جنوده الذين لا يعلمهم إلّا هو.. وأن يجعلني للمتقين إماما.. كنت أصلّي كما لو أنني أصلّي يوم الحشر.. وأصوم كما يصوم الأولياء.. وأتقبل مصائب الدنيا بكل صدرٍ رحب.. ولا أنام إلّا على صوت القرآن.. وكنت على أتم الإستعداد للموت في سبيله ألف مرّة..
ثم أخذتني زحمة الدنيا وملذاتها.. ونسيت الله .. ولم أتذكره إلا في المصائب.. كنت أدعوه لينجيني منها.. فإذا أنجاني منها، التزمت قليلا ثم عدت لما كنت فيه.. لم أكن أرتكب الكبائر، لكنني لم أكن "أرتكب" أي شيء آخر.. وعقب الجنازات أستغفر الله قليلا ثم أمضي..
اليوم.. أنا كأي مسلم عادي.. أصلي عادة وأصوم مع الصائمين.. وأتصدق بدراهم معدودة بينما أسأله الفردوس بلساني دون قلبي.. وأقرأ القرآن فلا "كهيعص" تبكيني كما كانت تفعل.. ولا "الرعد" تزلزلني" كما الأيام الخوالي.. وعلاقتي مع القرآن في أكثر الأحيان هي لتعليم بناتي قصار السور والكهف يوم الجمعة.. لكن القلب الذي تعبد في محراب الله فيما مضى، قسا فهو كالحجارة أو أشد قسوة...
ومن يدري.. ربّما بعد عشرين عاماً من الآن سيجلس الشيخ العاصي ذي القلب القاسي فوق سجادة الصلاة، يتلو صلواته المكررة طالباً من الله المغفرة على ما ضيّع في حياته.
وفي يوم ما.. سيراودني الموت عن نفسي وأقبل.. وستحصل المعجزة ويلتقي المخلوق أخيراً بخالقه.. وسيستقطع هذا الإله العظيم من وقته ليتكلم معي أنا المخلوق الضعيف..
أتمنى - حينئذ- أن تكون لدي القدرة أن أجثو على ركبتي وأقول له.. "سامحني يا الله.. إنني كنت عبداً جهولا"..
-4-
" هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي
هذه الصورة العائلية
كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي
أو كان الصبي الصغير أنا ؟
أم ترى كان غيري ؟
أحدق
لكن تلك الملامح ذات العذوبة
لا تنتمي الآن لي
و العيون التي تترقرق بالطيبة
الآن لا تنتمي لي
صرتُ عني غريباً
ولم يتبق من السنوات الغريبة
الا صدى اسمي
وأسماء من أتذكرهم -فجأة-
بين أعمدة النعي
أولئك الغامضون : رفاق صباي"
(من قصيدة الجنوبي - للشاعر العظيم أمل دنقل)
تمت ..
#في_صباي
#كتابات_ديك_الجن
نشر في 19 شباط 2015
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع