888 مشاهدة
0
0
إن أسوأ ما في المعرفة هي أنها عملية لا يمكن عكسها بمعنى أنه من الصعب جدا ألا نعرف الأشياء بعد أن نعرفها.. أو أن ننظر للأشياء بعد أن نفهمها بنفس العيون السابقة؟
بطوله الذي يقترب من أربعة أمتار ووزنه الذي قد يتجاوز 300 كغم، يستطيع هذا الوحش أن يمزّق بمفرده أي فريسة مهما بلغ حجمها.. وإذا ما قرر حيوان ما، في لحظة طيش وبتأثير ميول انتحارية أن يهاجمه، يكون قد حكم على نفسه بموت سريع ومؤلم.. لهذين السببين، يكاد يكون النمر - دونا عن الضواري الأخرى- هو الوحيد الذي يمكنه العيش بمفرده دون الحاجة إلى قطيع.. ودون أن يزعجه فلان أو يضايقه علّان..نحن البشر أيضا ضوارٍ.. لكن بما أن أسناننا بالكاد تستطيع كسر حبَة من الجوز.. وبما أنه يمكن لخروف بائس ذي قرنين أن يسقطنا أرضا بضربة واحدة.. أو لكلب أعورٍ بثلاث سيقان أن يجعلنا نركض خائفين لعدة أميال، فقد قررنا أن نتخذ مسارا مختلفا عن مسار النمر.. وأن نتشارك حياتنا مع الآخرين، ومن هذا الحلّ السحري، بدأت المشكلة..
عندما بدأنا العيش في مجتمعات.. اكتشفنا أننا وإن كنّا نمتلك ذات التوجهات لتأمين الحماية والطعام، إلا أننا في الحقيقة مختلفون في أشياء كثيرة.. اكتشفنا مثلا أن البعض منا لا يتورع عن أذية الآخرين.. والبعض بعكس ذلك مولع بمساعدة الآخرين.. فنشأ لدينا ولأول مرة مفهوما الخير والشرّ.. وصرنا نصنّف بَعضنا البعض على أساسهما.. فهذا الإنسان خيّر وهذا شرّير.. ثم اكتشفنا أن هذه التصنيفات عامّة جدا.. فمن الممكن لشخص أن يكون خيرا من ناحية وشريرا من ناحية أخرى! والعكس صحيح.. فظهرت الحاجة للقليل من التفصيل في هذا الموضوع.. وهكذا نشأ لدينا مفهوم الصفات أو الأخلاق.. وظهرت في مفرداتنا اللغوية كلمات تدلّ على صفات محددة، مثل بخيل، كريم، شجاع، جبان، ودود، عدواني.. الخ.. وبما أن الإنسان هو طيف من هذه الصفات، أطلقنا على هذا الطيف المتنوع اسم الشخصية.. وصار لكل إنسان شخصية تميّزه عن الآخر ونميّزه نحن أيضا بها..
موضوع الشخصية هذا، كمحدد ومعرّف للإنسان ودافع لتصرّفاته، وما يحمله من صفات (ظاهرة وكامنة) أصبح مهما جدًّا لدينا في تعاملنا مع الناس.. خصوصا إذا تعلّق الأمر بعلاقة طويلة الأمد نودّ خوضها معهم, كزواج أو شراكة عمل أو غيره.. لذلك أصبحنا مهووسين تقريبا بمحاولة معرفة شخصيات الناس ودراستها.. لأننا حين نحتاج إلى أن نتزوج امرأة مثلا.. يهمّنا جدا أن نعرف الطريقة التي تلجأ لها لحل المشاكل.. هل ستنعزل في ركن بعيد وتبكي؟ هل ستناقش الأمر بعقلانية مع زوجها؟ أم هل ستدع ساطور المطبخ يقرر من هو الفائز بينهما؟
وبعيدا عن المحاولات الفردية لحل لغز شخصيات الناس, وحلول مثل الأبراج والعرافين والقصص والحكاوي وغيرها.. بدأ بعض الفضوليين بمحاولة تحليل شخصية الإنسان بشكل علمي.. فظهرت عدة نظريات.. الأولى كانت تقول أن الإنسان شرير بطبعه.. خاطئ شهواني ظالم وقاسي.. ولا يمنعه من أن يطبخ الناس على العشاء إلا محدودية قدرته على ذلك.. لكن لو وضع في خيار حرّ فسيختار الشرّ على الخير حتما..
نظرية صادمة وقاسية.. وجدت الكثير من المؤيدين, لكنها أيضا جعلت كثيرا من الناس يضعون أيديهم على أفواههم من الدهشة! رافضين هذه النظرية التي تجعلنا نشكّ في إنسانيتنا وأخلاقنا ونزعتنا الفطرية للخير.. لذلك كان الاحتفاء كبيرا بالنظرية الثانية.. التي قالت أن الإنسان خيّر بطبعه.. والشرّ ما هو إلا قشرة رقيقة.. وأسلوب دفاعي يستخدمه البعض للحماية.. أما في دواخلنا فأنقياء طاهرين كأطفال رضّع..
وبينما احتدّ الجدل بين مؤيدي كل نظرية.. ظهرت النظرية الثالثة كحلّ وسط.. نظرية الين يانچ.. والتي تقول بكل بساطة أننا لسنا ملائكة ولا شياطين.. نحن مزيج بين هذا وذاك.. والشرّ والخير موجودون فينا بنفس المقدار.. إنما الظروف والتربية هي ما تغلّب جانب على آخر.. وهي النظرية الي حازت النصيب الأكبر من الرضا.. ووجد فيها كل طرف ما يدعم فرضياته دون إنكار المخالف..
وفِي حين ظنّ الجميع أن الأمر قد انتهى عند هذا الحدّ.. ورضي كل طرف بما أخذ.. ظهرت النظرية الرابعة والمختلفة تماما عن كل ما سبق.. لتقول أن الإنسان ليس خيرا ولا شريرا.. وأن الخير والشر ما هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.. لكنّ الحقيقة أن الإنسان أناني، ويتحرّك فقط طبقا لنفعيته ومصلحته الخاصة.. أي بمعنى آخر لتحقيق متعته والتقليل من ألمه.. وأن حتى أكثر الأعمال خيرية كعناية الأم بأطفالها هي عمل أناني في الحقيقة.. ووسيلة فقط لتغذية الشعور الطيب الموجود في صدرها والذي يرضيها كأم..
طبعا، غني عن القول أن هذا الطرح الراديكالي واجه الكثير من الانتقادات.. وأهمها أنه مجرد طرح وصفي لا يفسر الأمور.. لكنني شخصيا أؤمن به جدا.. وسأحاول بعد هذه المقدمة الطويلة أن أضع بصمتي الصغيرة هنا.. وأن نفكر معا بصوت عال.. لنرى كيف تفسر هذه النظرية أفعالنا اليومية.. ولنبدأ بتحليل علاقة الإنسان بإنفاق الأموال.. وصفات البخل والكرم والتبذير..
في رأيي المتواضع.. أن كلا من البخيل والكريم والمبذر ينطلق من نفس المنطلق.. متعة الذات.. لكن الفرق أن كل منهم يتعامل بعملة مختلفة.. ففي حين أن عملة البخيل هي النقود الورقية.. وسعادته تكون في تجميعها.. نجد أن العملة التي يتعامل بها الكريم هي رضاه عن نفسه بعد مساعدة الناس.. فلذلك يقوم -أي الكريم- بنوع من تبديل العملة.. أي أنه يستبدل العملة الورقية برضاه عن نفسه.. لأن السعادة التي يمنحه إياها شعور الرضا عن النفس أكبر من السعادة التي تمنحه إياها الأوراق المالية.. ومثله المبذر الذي تمنحه صورته في عيون الناس كرجل غني سعادة أكبر من السعادة التي تمنحه إياها الأوراق المالية.. وهكذا نجد أن هذه النماذج الثلاث المختلفة متشابهة إلى حد كبير.. كل منهم يبحث عن سعادته بطريقته الخاصة.. والثابت بينهم جميعا أن الطرف المستقبل أو المحروم من المال لا يشكل أي هدف.. وإنما هو وسيلة فقط..
هنا قد تقول أن هذا مجرد تلاعب بالكلمات.. لكن لنطبق هذه التجربة عليك أنت عزيزي القارئ.. أنت تعمل في شركة وتتقاضى راتبا يبلغ 500 دينار أردني في كل شهر.. قررت الشركة أن يتبرع الموظفون شهريا بجزء من رواتبهم لدار ايتام قريبة من الشركة.. ولهذا الغرض قامت بتوزيع أوراق عليكم ليختار كل موظف مقدار المبلغ الذي يود التبرع به.. أنت أمسكت الورقة وقرات الخيارات.. وكان الخيار الأول هو التبرع بعشرة قروش فقط.. بينما الخيار الثاني هو خمسة دنانير.. بينما يبلغ الخيار الثالث هو 25 دينار..
وبعد تفكير قليل.. قررت أن تتبرع بخمسة دنانير من راتبك الشهري.. ووقعت على تلك الورقة ونسيت الأمر.. لكن عند استلام راتبك اكتشفت أنه خصم منك تبرع بقيمة 25 دينارا.. ولدى مراجعتك للمحاسب قال بأنك وقعت على خصم 25 دينارا من حسابك.. هنا سيجن جنونك.. مع أنك تحب مساعدة الأيتام.. لكن لماذا؟ لأنك حين رأيت الورقة.. قررت أن الشعور الطيب بمساعدة الأيتام لا يستحق أكثر من خمسة دنانير شهريا.. هذا هو تبادل العملة العادل بالنسبة لك.. هذا هو سعر السعادة العادل.. أما ما فوق ذلك.. فلا.. لا تستحق هذه السعادة 25 دينارا بالتأكيد.. خمسة تكفي.. فالموضوع مرة أخرى لا علاقة له بالطرف المستقبل للنقود بقدر ما هو موازنة للسعادة في داخلك..
وهكذا نجد أن معظم تصرفاتنا اليومية تعمل بنفس هذه الحسبة.. حتى في الأمور غير المادية.. خذ فكرة كالخوف مثلا.. دارت حولها صفتا الشجاعة والجبن.. بحسب هذه النظرية.. يمكننا القول أنه لا يوجد شيء اسمه الخوف من.. بل الخوف على.. نحن لا نخاف من الأسد.. نحن نخاف على أنفسنا مما يمكن للأسد أن يفعله بنا.. ولذلك لا نخاف من الأسد المقيد مثلا..
بنفس المنطق.. فالشجاع شجاع لأن خوفه على سمعته وممتلكاته وكرامته أكبر من خوفه على نفسه!! وبالتالي عنده استعداد تام لأن يضع نفسه في خطر مقابل حماية ما يملك.. والجبان بالمقابل لا يؤمن بهذه الحسبة.. فالألم الناتج عن الدخول في معركة أكبر بكثير في حساباته من ألم لوم الناس أو لوم الذات.. ومرة أخرى نجد أن ما نسميها فضائل أو رذائل ما هي إلا حسابات مختلفة لمصالحنا الذاتية..
وهنا قد يقول قائل أن هذه النظرية ربما تفسر الكثير.. لكنها تعجز عن تفسير علاقاتنا بآبائنا وأمهاتنا وأطفالنا وأزواجنا.. إننا نحبهم حبا مشروطا وغير أناني.. فأقول لك أن حتى هذه العلاقات تعمل بالنسق نفسه.. إننا عندما نحب شخصا ما.. فإننا لا نرجو من وراء ذلك إلا سعادتنا الذاتية النابعة من وجوده.. وإن حدث وتعرضنا لبعض الألم من هذه العلاقة.. فنحن على استعداد لتحمله في سبيل سعادة قادمة.. أما في اللحظة التي نوقن بها أن العلاقة لن تمنحنا أي سعادة.. لا حاضرة ولا مستقبلية فسننهيها بدون حتى ان ننظر للوراء.. نفس الشيء يحدث في علاقاتنا الأبوية.. فأنت كأب/ كأم.. حتى لو تعرضت للأذى من أبنائك.. فلا تزال السعادة التي ترجوها من وجودهم أكبر.. ولا يزال الألم الذي سيحل في روحك لو تخليت عنهم أكبر بكثير من أي ألم يتسببون به..
وهنا قد يحاجج شخص ما.. أن هذا الكلام غير صحيح.. فحتى في عالم الحيوان.. قد تقتل الأم دفاعا عن صغارها.. فأرد وأقول أن هذا الكلام صحيح وغير صحيح في الوقت نفسه.. فالحيوانات تدافع فعلا عن صغارها بدافع غريزة حفظ النوع.. لكنها تفعل ذلك فقط إذا رأت أن إنقاذهم ممكن.. أما لو تأكدت من استحالة إنقاذهم وأن أي محاولة في هذا المجال ستعني قتلها.. فستغلب غريزة البقاء وتنجو بنفسها.. وما الحالات التي تراها حين تقتل الأم إلا سوء تقدير للمعركة.. لكنها ليست الحالة السائدة..
تفسير الأمور بهذا الشكل مقلق.. لأنه يجردنا من أي حس إنساني نفتخر به.. ويجعلنا مجرد مخلوقات أنانية فجة.. وما الخير الذي نظن أننا نفعله إلا قشرة رقيقة تخفي خلفها مصالحنا الضيقة.. لكنني أرفض النظر لهذا الأمر بهذه الطريقة.. وأفضل أن أقول أننا أخلاقيون فعلا.. لكن هذه هي الخوارزمية التي تعمل به أخلاقنا في اللا وعي.. هكذا تمت برمجتنا.. وعلى علماء النفس والمربين وأساتذة المدارس والآباء وكل مهتم بتغيير سلوكيات الإنسان أن يفهم هذا الأمر.. لأن الله نفسه.. خالق هذا الإنسان تعامل معه بهذا الشكل.. وخاطبه عندما أنزل الأديان السماوية بهذه اللغة "يدعونه خوفا وطمعا".. وهذا بالضبط ما عناه النبي الكريم عندما قال "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.. " وعملية تتميم مكارم الأخلاق هذه.. حدثت عبر إضافة عملتين إضافيتين لحساباتنا.. عملة السعادة المؤجلة في الجنة.. والعقاب المؤجل في النار.. واللتين تم إضافتهما للخوازرمية التي تعمل في عقولنا..
في النهاية بقي ان أقول أن أسوأ ما في المعرفة هي أنها عملية لا يمكن عكسها.. بمعنى أنه من الصعب جدا ألا نعرف الأشياء بعد أن نعرفها.. أو أن ننظر للأشياء بعد أن نفهمها بنفس العيون السابقة؟ من سيقنعنا الآن أن أولئك الذين يحبوننا إنما يحبوننا لذواتنا فعلا لا للسعادة التي يرجوها من ورائنا هؤلاء الأنانيون؟ من سيجعلنا نقتنع أننا نستحق أن نحب لما نحن عليه.. لا لما من الممكن لنا أن نعطيه؟
سؤال صعب.. وعطلة سعيدة ..
#ديك_الجن
نشر في 20 كانون الأول 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع