أرفضُ فكرة الحنان القائمةِ على التّفاني التّام من أجل الآخر. التّفاني الذي ارتبط دائماً و أبداً في شخص الأمّ، نبع الحنان الذي قررنا يقيناً أنّه دائمٌ لا ينضب
أرفضُ فكرة الحنان القائمةِ على التّفاني التّام من أجل الآخر.
التّفاني الذي ارتبط دائماً و أبداً في شخص الأمّ، نبع الحنان الذي قررنا يقيناً أنّه دائمٌ لا ينضب.
و مَن قال لكم أنّ الينابيعَ لا يمرّ عليها وقتٌ و تنضب، و مَن منح حنان الأمّ صفة الدّيمومة في العطاءِ اللّامحدودِ واللّامشروط، لتكونَ مطيّة إتّكال لكلّ متواكلٍ متكاسل.
هنا، لن أتحدّث عن العاقّ، ذاك الذي لا يستشعر قيمة الحنان أصلاً، فليس هو النّموذج الذي في نطاق حديثنا. إنّما، حديثنا عن الإبن الطّبيعي،
الذي هو من سوادِ النَّاس و عمومهم.
و لِنسلّط الضّوء بدايةً، على المهام الموكلة للأمّ دون حِملٍ زائدٍ يُثقل كاهلها. و لِنؤطّر فكرة مسؤوليتها في إطارها المنطقيّ، دون مبالغة أو غلوّ.
هي الأمّ التي حَمَلَت تسعة شهورٍ وَهناً على وَهنِ الولادة و ما بعدها، من إرضاعٍ و فِطامٍ و تدريبٍ على المشي، و تعويدٍ على الحمّام، و عنايةٍ و توجيهٍ و حمايةٍ و تمريضٍ و ملاعبةٍ و تعليمٍ، ويبقى هذا الطّفل تحت مسؤوليتها المطلقة حتّى عمر الخمس سنواتٍ، حيث تبدأ فكرة مشاركته في تحمّل تلك المسؤولية، التي تبدأ بقانون: أنت المسؤول عن خطئك، و تنتهي بمبدأ: اترك المكان أفضلَ ممّا كان، و ما إلى جانبِ ذلك من أمورٍ تعويديّة، كتفريش الأسنان و ترتيب السّرير، و غيرها من الأمور الشّخصيّة، التي يجب أن تكون بمجهودٍ ذاتيّ من الطّفل من جهة، و مراقبةٍ و دعمٍ وتشجيعٍ من الأمّ من جهةٍ أخرى.
و تدوم هذه المتابعة و المراقبة لمدّة عامين، أيّ لعمر السّابعة، حيث يتمّ إعتماد الطّفل على نفسه في جلّ الأمور.
فَلَو افترضنا بيئةٍ مثاليّة فَرَضاً.
نجد أنّ الأمّ، قد استيقظت صباحاً لإعداد الفطور، و أؤكد على ضرورة إعداد الفطور من قِبل الأمّ، لِما له من حميميّة، لا يمكن لأيّ مخلوقٍ أن يضفي ذاك النَفَس العاطفي لأولادها، عداها.
و لا يمكن لأيّ شيء أن يساعدهم على ضبطِ اتّزان دفّة بداية نهارهم، سواها.
في هذه الأثناء، من المفترضِ، أن يكون الإبن قد رتّب سريره، و تَرَك غرفته في حالٍ جيّدٍ قبل تناول فطوره، و من ثمّ رفع طبقه الذي أَكَل به، و غسله مع يديه، قبل توجهه للمدرسة.
لأنّه سيكون كافياً على الأمّ تعَباً في غيابه، أن تنظّف ما أفسدته الطّبيعة وحدها، من غبارٍ متناثر هنا و هناك، فمن كرَمِ الأمهات عادةً، أنّها لا تُقحم أبنائها في قضايا تنظيف الأتربة المنتشرة فوق الخزانةِ و تحت الأسرّةِ و خلف المجالس
و تلك الغبار العالقة على النّوافذ و الشّرُفات و المَفارش
و لا يدرون شيئاً عن تلميع الزّجاج والثّريّات
و سرّ الّلمعة الدّائمة لتحفِ البيتِ و الخزفيّات
و لا يَعْلَمُونَ متى يتمّ مسح الأرضيّات و تعقيم الحمّامات
و كيفيّة تفريش السّجّاد و تنظيف الجدران والكنبات
و التَعهّد المستمرّ في الإعتناء بالمطبخ و دهاليزه العميقة
من رفوف الثّلاجة و علب البهارات و تلك التّفاصيل الدّقيقة
و كيف تخاطر الأمّ باستخدام المواد الكيماويّة التنظيفيّة
من مانعٍ للتكلّس، و مُزيلٍ للبقع، و كاشطٍ للدّهون اللامرئيّة.
عداك عن ..
غسيلٍ و نشرٍ و طويٍ و كويٍ و تعليقٍ.
و فَرزٍ وتخزينٍ و ترتيبٍ وتعطير و تنسيق.
و عالماً من طبخٍ و حلويّات ومشروباتٍ و أصناف طعام
و مونةٍ كاملةٍ، تكفي لعائلةٍ كاملةٍ، من العام
إلى العام.
كلّ هذا الوزن من المسؤوليّات، و نبع الحنان سيبقى معطاءً دفّاقاً
عذباً طيّباً رقراقاً
و إنِ اعتراها بعض التّعب و اشتكت إرهاقاً..
صدّقني!
أنّه غالباً سيُنسى في آخر النّهار.
و لكنّ ما يُنضِب ذاك النّبع المعطاء الشّفّاف
و يدفع الحياة المثاليّة إلى التّصحّر والجفاف
هو المشهد المستمرّ..
لبنطالك المكوّم على الأرض مرميّاً
و جرابك الذي ترميه تحت السّرير يوميّاً
و الملل من إغلاق غطاء معجون الأسنان من ورائك كلّ مرّة
و مسح المرآة من بعدِ تسريحةِ شعركَ و
تلميعها مئة كرّة
ومن إعادة مشطك إلى ركنه
ووضع عطرك على رفّه
و تنظيف حذائك و صفّه
و التّعبُ من رفع سجادة الصّلاة التي تركتها أرضاً، تقبّل الله!.
و جمعِ ألوانك و ألعابك المقذوفة طولاً و عرضاً، كبّرك الله!.
و الاستمرار في تجميع كتبك المبعثرة من على مكتبك
و التقاط الأوراق و المناديل التي تكوّمت تحت مقعدك
و من تعديل الوسادة التي كانت طول السّهرة خلف ظهرك
و لمِّ قشر المكسرات التي نَثرتَها فوق الطّاولة
و ترَكتها
وجهاز تحكّم التلفزيون الذي سقَط منك و نسيتَه تحتها
و من كمّ كاسات الشّرب التي تكوّمت على المجلى دون علمك
وبقعة القهوة التي فارَت على الغاز ثم السّجادة من دون حذَرِك.
يجفّ ذلك النّبع عندما..
تختار قطعة الملابس السّفلى من على الرّف
وتقلُب الجميع و تمضي
و ترمي بالقميص الأبيض والأزرق و الأسود ثمّ تعتمد إرتداء الفضّي.
تترك الغرفة بركان فوضى لخادمةٍ أنت افترضتّها
و تعتقد أنَّك بعطرٍ ووردةٍ ذابلةٍ ستشتري ودّها
و تظنّ أنّ البركان و كلّ ما فيه من نار
ستخمد في الواحد و العشرين من آذار
سيبدو لك أنّ النّبع إذا جفّ يكون بالإمكان
إيجاد غيره فالينابيع موجودة في كلّ مكان
فمن الممكن أن تجد مَعيناً عذباً و تسنيماً
و تجده شراباً سائغاً و مِزاجه سلسبيلاً
لكن
داري نبع حنانك فهو على زوال
ليس السّبب جوربك المرميّ
و قميصك الملقيّ
و ليس بسبب ذلك البنطال
بل من أمورٍ أخرى ستعرفها
وحقاً ستدركها
في وقتها أو في غير و قتها
ستفهمها على كلّ حال