1756 مشاهدة
0
0
فى يوم عرفة من السنة العاشرة للهجرة كان أكثر من مائة ألف مسلم يحجون مع النبى عليه الصلاة والسلام الحجة التى عرفت فى التاريخ بحجة الوداع!
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 16 ] اليوم أكملت لكم دينكم
فى يوم عرفة من السنة العاشرة للهجرة كان أكثر من مائة ألف مسلم يحجون مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحجة التى عرفت فى التاريخ بحجة الوداع! وأنصت الأصحاب إلى خواتيم الوحى الذى وصل جزيرة العرب بالملأ الأعلى وهى تنهى إليهم هذا النبأ المثير: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
لقد تمت الرسالة التى بدأت آياتها تتنزل من ثلاث وعشرين سنة! نعم، فعلى بعد عشرين ميلا من عرفة، كان الوحى يرف على غار حراء ببواكيره الندية، يقول للرسول الخاتم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق).
لقد قرأ وقرأ وظل يقرأ ويقرأ، وها هو ذا اليوم يسمع أن الختام أوشك وأن الدين اكتمل. بعد ثلاث وعشرين سنة ليس لها نظائر فى أعمار البشر، ولا أشباه فى تواريخ الأمم تم نزول الوحى، وتمت تربية الأمة التى ستحمله للعالمين أشرف على صنعها الإنسان الذى أفرده القدر بهذه الميزة فلم يشركه فيها واحد من المرسلين.
ألم يلبث نوح عليه السلام تسعة قرون ونصفا ليصلح قومه دون جدوى؟ ألم يخلف موسى عليه السلام فى قومه نحو ثلاثمائة نبى ظلوا كذلك ألف عام ليصلحوا بنى إسرائيل فلما تعذر صلاحهم تحولت رسالات السماء عنهم إلى الأبد؟
لكن " محمدا " ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعناية الله استطاع أن يغير الجزيرة العربية تغييرا حاسما، وخلال ربع قرن أو أقل تبدلت الأرض غير الأرض فإذا البقاع التى غبرت دهرا عطشى إلى أثارة من علم تفيض بحضارة موارة بالحياة والعطاء والعدالة والمرحمة، وإذا أبناء البوادى يعلمون أبناء روما وأثينا والمدائن حقوق الإنسان، ومعالم الحضارة، وضوابط المعرفة.
إن ما أحدثه نبى القرآن فى دنيا الناس معجزة فوق ما يعرف الناس من خوارق وعادات، والمائة ألف التى استمعت إليه فى حجة الوداع وهو يهدر بآيات الحق كأنما انسكب فى روعها قبس من هذا الإنسان الهادى فإذا هى تتحول إلى شهب فى الليل المخيم على الإنسانية، فلا ترى فيهم إلا مجاهدا يهوى التضحية، أو فقيها يهوى المعرفة، أو ناسكا تزينه التقوى أو شهيدا يعلم الناس الكبرياء على الدنيا وأهوائها.
سبحان الله، من صب هذه النفوس فى قوالبها الجديدة؟ ثم نشرها نشرا فى آفاق الدنيا لتسمع الناس الأذان من انفلاق الصبح إلى ما بعد الغروب.
إنه الإنسان المصطفى الذى اكتنفته الأحزان والمتاعب منذ قيل له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق). إلى أن تنزل عليه بعد ثلاث وعشرين سنة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
كان كل يوم من هذه السنين الطوال عمرا كاملا من أعمار الآخرين لما حفل به من شئون وشجون.
فى قراءاتى لسير الأنبياء قررت أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعبد الأولين والآخرين وشرحت ـ فى كتبى ـ كيف أن أديم الأرض لم يشهد مثله تاليا للوحى، قواما به آناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه! ولم يشهد مثله ساجدا يستشعر أمجاد الألوهية ويحيى ربه بفنون ناضرة من التسبيح والتحميد، ولم يشهد مثله منتصبا فى ميادين الجهاد كادحا لإعلاء كلمة الله، مخليا الطريق من الجبابرة والفتانين.
من حب الله والتحاب فيه بدأت قافلة الإسلام مسيرتها، بدأت أفرادا يعدون على أصابع اليد الواحدة، ثم أخذت تنمو ببطء شديد لكنه مطرد موصول الأواصر التى تشدها وتنبع من فؤاد صاحب الرسالة المفعم بالشوق والصدق والتسامى، ولقد عرف خصوم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك، واعترفوا بأنه ليس فى الدنيا أحد يحبه صحبه كما يحب أصحاب محمد محمدا.
أين ذلك مما رواه الإنجيليون أن بطرس فى إحدى المحن التى مرت بعيسى بن مريم قبض عليه رجال الشرطة، وسألوه عن صلته بعيسى فغلبه الخوف على حياته وأنكر أنه يعرفه، بل أن يؤمن به.
فى هذه البيئة الصخرية البالغة الجفاف كانت مشاعر الود والإيثار وافتداء الغير ـ لله وحده ـ ومن أجل دينه تنفجر من نبى الإسلام وتضع الأسس لبناء الأمة الأمينة على وحى الله، المسئولة عن حفظه وتبليغه إلى آخر الدهر.
ولعل ذلك كان السر فى تماسك المسلمين أمام العداوات المرة التى ووجهوا بها فى كل مكان، كأن شياطين الأنس والجن تقاسمت ألا يرفع للإسلام علم، وألا ينتظم له صف.
أهل الكتاب من يهود ونصارى لا يكتمون سخطهم على الدين الجديد وتبرمهم بعقائده وسعيهم فى تخريب مساجده! ولقد رأيتهم إلى يوم الناس هذا تربد وجوههم عند سماع الأذان، وتضيق بهم الأرض.
ماذا يريدون؟ إننا لن ندع تكبير الله وتوحيده والإقرار بالجميل للنبى الذى عرفنا هذه الحقائق.
وقد سجل القرآن الكريم مشاعر القوم، ونبهنا إلى ما يجب بإزائها عندما قال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير).
وأما الكافرون وراء دائرة الكتابيين ففى ضلال وسعر، لا يهادنون الإسلام ولا تبرد لهم خصومة، هم كما قال الله: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).
فى وجه هذه المقاومات العنيدة نشأ الإسلام، نشأ يقيم الصلوات ويختمها بإفشاء السلام يمنة ويسرة، ونشأ يعود أتباعه على إلقاء السلام فى المجالس والطرقات، لأن السلام تحية المسلمين على امتداد الزمان والمكان.
ومشت قافلة الإسلام بخصائصها النفسية والاجتماعية، متغلبة على أنواع الحصار التى فرضت عليها، ومجتذبة بعظمة قائدها كل من فى قلبه بقية من خير أو شرف، ومتخطية أحقاد الأعداء فما وضعت السيف إلا حيث لا يجدى الندى ولا ينجع وئام.
وها هى ذى بعد ثلاث وعشرين سنة تحج البيت العتيق بعدما طهرت جوانبه من الأصنام، وتنصت إلى قائدها الجليل وهو يخطبها فى حجة الوداع يزودها بنصائحه ويعلن انتهاء الجاهلية وتقاليدها البالية.. ويطرق آذانها هذا الخبر الإلهى الذى له ما بعده: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
كيف تم فى هذه الفترة الوجيزة نقل أمة من التعصب الشديد للباطل إلى التعصب الشديد للحق؟ إن مسافة الخلف بين العرب فى جاهليتهم والعرب بعد إسلامهم بعيدة بعيدة.. كيف طويت هذه المسافة مع انعدام وسائل الإعلام الحديثة وطول المشقة بين القلوب والأفكار؟
إن الشيوعية فى عصرنا مع استعانتها بأحدث ما وصل إليه العلم لم تستطع بعد خمس وستين سنة أن تستقر فى أرضها إلا بالأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية لأن جو الحرية قاتلها يقينا..
أما العرب فإن الإسلام غيرهم فى فترة قصيرة، ثم غيروا العالم بعد ذلك تغييرا جذريا ولم تكن لهذا التحول الشامل أداة إلا الأسوة الحسنة.
قال مالك بن أنس: بلغنى أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضى الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين.
والواقع أن الإجهاز على الاستعمار الرومانى ومحو مظالمه وظلماته ما كان يقدر عليهما أبدا إلا هذا الجيل الذى رباه محمد عليه الصلاة والسلام، إن القوتين النفسية والعقلية على المحو والإثبات انتقلتا من صاحب الرسالة العظمى إلى الرجال الذين تبعوه، فإذا هم يغسلون الأرض من أدرانها لتنشأ عليها أمم من طراز جديد.
وقد روى الشيخان حديثا يضرب المثل لهذه القدرة الفائقة، فعن أبى سعيد الخدرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " يأتى على الناس زمان فيغزو فئام من الناس - فيقال لهم - فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يأتى على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم ".
والحوار كما قلنا من باب التمثيل، لإبراز القدرات العارمة على التغييرين الاجتماعى والسياسى اللذين انتقلا إلى الصحابة والتابعين من حامل الرسالة الخاتمة، هذا النبى الذى دفع القرون أمامه بعدما نفخ فيها من روحه، فإذا اليابس يخضر، والكدر يصفو، وإذا تراثه فى أوائل القرن الخامس عشر لا يزال - من الناحية النظرية - سيد الموقف وإن جار عليه الأقربون والأبعدون، وتنكر له كثيرون.
وقد كانت الحكمة القرآنية هى التى تولت صياغة المسلمين على النحو الذى بلغوه، وأعنى بالحكمة الموازين النفسية والفكرية التى ضبطت الفرد والجماعة.
وإليك هذا المثال بعد صفحتين من الآداب التى انتظمت العقائد والأخلاق تقرأ قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا * ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها * ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).
هذه الحكمة التى ألهمها صاحب الرسالة هى التى جعلت أتباعه ربانيين يدخلون البلاد لحساب السماء لا جريا وراء الحطام، ويحيون لله لا لطبائع الأثرة والاستعلاء.
وقد جاءت الحكمة فى سورة الإسراء بعد تفصيل لبعض مفرداتها ولكنها فى سورة لقمان جاءت سابقة ثم لحقها التفصيل والإيضاح. (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد).
ثم شرع لقمان يعرض حكمته ويؤدب ابنه ويرفع مستواه.
ومن فقهائنا من يرى الحكمة هى السنة الشريفة، وربما استأنس لذلك باقترانها بالكتاب عادة، ونحن نعرف أن السنة نصف الدين ومجلى العظمة المحمدية بيد أننا لا نفسر الحكمة بها ونرى الأليق بالكلمة ما ذكرنا.
والحكمة فى المصحف الشريف سطور منثورة وعظات حية، لكنها تتحول من شخص النبى العظيم إلى سيرة مرموقة وبطولة معجبة ومنهج دقيق، إن الفضائل المتجسدة فى سيرة محمد عليه الصلاة والسلام جعلته شمسا لا يلحقها أفول، ومكنت الألوف من الأخذ عنه والاقتباس منه دون زحام.
وغريب أن تلتقى فى سيرة هذا الإنسان العالى أطراف متباعدة من شئون الناس فيؤديها كلها بدقة لا ترى فيها تفاوتا، إنه يعلم امرأة كيف تنقى بدنها، ويعلم رجلا كيف يرجل شعره، وفى الوقت نفسه يرسى العلاقات الدولية، ويخطط للحرب والسلام.
والسر فى ذلك أنه ترجمة عملية للقرآن الكريم، فهو مدد شعوره ولب تفكيره، وأساس سلوكه ونظام أخلاقه فى البيت والطريق والخلوة والجلوة والصداقة والخصام والقرب والبعد. كان العرب أفرادا مبعثرين لا يجمعهم شىء، وكان تركيبهم النفسى يستعصى على كل رباط، وقد قال الله فيهم: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم).
فما الذى حول الجزيرة الفوضوية إلى مستودع رتيب تخرج منه الجيوش موحدة الهوى والهدف؟ وتنساق إلى غاياتها مرصوصة الصفوف تحنى أصلابها فى الصلاة على تكبير واحد! وتتسابق إلى لقاء الله بيقين واحد؟ إن صاحب الرسالة العظمى بكتابه الكريم هو الذى أتم هذا الإعجاز.
بدأت المسيرة بنفر يعدون على الأصابع، وها هم أولاء فى يوم عرفة يبلغون عشرين ومائة ألف.. يستعدون لإصلاح العالم بعدما أصلحوا بلادهم، ويحسون أن رحلة جديدة توشك أن تبدو فى تاريخهم وهم ينصتون فى خشوع وأدب للوحى الإلهى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
اكتمل الدين، وتمت النعمة، وارتضى الله لنا الإسلام دينا. أى شرف باذخ عمم القدر به هاماتنا؟ لقد أصبح صبغتنا الثابتة ووظيفتنا العالمية فمن جحد هذا القدر، وارتخص هذه النعمة فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق.
لا أزدرى أحدا من الناس كما أزدرى امرأ شرفه الله بالإسلام فخلع عنه ثوبه، وترك لواءه، وقرر السير فى الدنيا عريانا تحت لواء الجاهلية الأولى. ما تقول فى عربى يهجر دينه وينسى ربه العظيم ويستقبل فى أرضه هندوكيا يقدس بقرته أو سيخيا يقدم خرافته، أو يهوديا يعظم أرومته، أو صليبيا يوقر ثالوثه، كل أولئك يغالون بعقائدهم وألسنتهم.. وهو وحده بارد الأنفاس بإزاء مواريثه من دين ولغة. ماذا ينتظر هذا الشقى إلا البوار والعار؟
إن المسلمين إذا فقدوا مودة الرحمن لم يبق لهم على ظهر الأرض صديق، وإذا أضاعوا شرائع الإسلام فلن يكون لهم من دون الله ولى ولا نصير.
أقول ذلك والأنباء الموجهة تكتنفنا فى الصباح والمساء تحكى كيف يعربد اليهود حولنا، وكيف استنسر البغاث بأرضنا، وكيف تجرأت علينا الخالية والعاطلة، وكيف باءت قضايانا بالخذلان فى محافل العالم الكبرى؟
هل توقظنا التجارب اللاذعة فنعود إلى الإسلام عودة تزكى السرائر وتبنى الأخلاق وتصلنا بالحكمة القرآنية الهادية، وتشعرنا بشرف الانتماء إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودينه وضرورة العمل الجاد برسالته؟
إن الله بعث من العرب خاتم رسله، وجعل فى أرضهم قبلة الصلاة، وجعل من لغتهم لسان الوحى، وأودع فى تراثهم السنة المطهرة واستبحارا فقهيا لم يعرف مثيله فى حضارة بشرية.
وبعد هذا الإنعام الغامر- قال للعرب: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون). فهل نذكر ونشكر، ونعيد البعث الإسلامى مرة أخرى ليحيى الموات وينشر الأموات؟ ذاك ما يجب علينا فى عيد اكتمال الدين وتمام النعمة.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 09 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع