Facebook Pixel
نصوص القرآن والمصلحة العامة
1793 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

جرت على الألسنة عبارة غامضة، أن عمر بن الخطاب ألغى بعض النصوص، أو أوقف العمل بها على نحو ما، لأنه رأى المصلحة فى ذلك، ما حقيقة هذا الأمر وصحته؟

كتاب : دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 5 ] : بين النص والمصلحة

جرت على الألسنة عبارة غامضة ، أن عمر بن الخطاب ألغى بعض النصوص ، أو أوقف العمل بها على نحو ما ، لأنه رأى المصلحة فى ذلك!

وهذا كلام خطير ، معناه أن النص السماوى قد يخالف المصلحة العامة ، وأن البشر لهم ـ والحالة هذه ـ أن يخرجوا عليه ، ويعدموه.

وكلا المعنيين كاذب مرفوض ، فلا يوجد نص إلهى ضد المصلحة ، ولا يوجد بشر يملك إلغاء النص..!!

ولننظر إلى ما نسب لعمر فى هذا الشأن. قالوا: منع سهم الزكاة أن يُصرف للمؤلفة قلوبهم بحجة أن الإسلام استغنى عن تألفهم..

وفهم صنيع عمر على أنه تعطيل للنص خطأ بالغ ، فعمر حرم قوما من الزكاة لأن النص لا يتناولهم لا لأن النص انتهى أمده!

هب أن اعتمادا ماليا فى إحدى الجامعات خصص للطلبة المتفوقين ، فتخلف فى المضمار بعض من كانوا يصرفون بالأمس مكافآتهم ، فهل يعد حرمانهم إلغاء للاعتماد؟ إنه باق يصرف منه من استكملوا شروط الصرف.

وقد رفض عمر إعطاء بعض شيوخ البدو ما كانوا ينالونه من قبل تألفا لقلوبهم أو تجنبا لشرورهم بعدما استطاع الإسلام أن يهزم الدولتين الكبريين فى العالم ، فهل يظل على قلقه من أولئك البدو أمثال عباس بن مرداس والأقرع بن حابس؟

أبعد هزيمة كسرى وقيصر يبقى الإسلام يتألف حفنة من رجال القبائل؟

ليذهبوا إلى الجحيم إن رفضوا الحياة كغيرهم من سائر المسلمين..!

إن مصرف المؤلفة قلوبهم باق إلى قيام الساعة يأخذ منه من يحتاج الإسلام إلى تألفهم ، ويذاد عنه من لا حاجة للإسلام فيه.

وعمر وغيره من الخلفاء والحكام أعجز من أن يعطلوا نصا ، وأتقى من أن يتقدموا بين يدى الله ورسوله ، ويجب أن تفهم التصرفات بدقة ، ولا تساق التهم جزافا..

• عمر لم يعطل حد السرقة :

وقالوا: إن عمر عطل حد السرقة عام المجاعة.. ونقول: إن الجائع الذى يسرق ليأكل أو ليأكل أولاده لا قطع عليه عند جميع الفقهاء ، فما الذى عطله عمر؟..

إن قطع السارق المعتدى الظلوم هو حكم الله إلى آخر الدهر ، ولا يقدر عمر ولا غير عمر على وقف حكم الله.

ولإقامة الحد شروط مقررة ، فمن سرق دون نصاب ، أو سرق من غير حرز لم تقطع يده ، ولا يقال: عُطل الحد ، بل يقال : لم يجب الحد!

والذى حدث أيام عمر أن المدينة وما حولها تعرضت لقحط عام ، وفى عصرنا هذا نسمع بمجاعات فى آسيا وإفريقية يهلك فيها الألوف ، وليس بمستغرب أن يخرج الناس من بيوتهم يطلبون القوت من أى وجه ، وقد يحملهم ذلك على الخطف أو السرقة ، فهل تعالج تلك الأحوال بالسيف؟

إن عمر درأ الحد بالشبهة ـ كما أمرت السنة الشريفة ـ ولا يعاب إذا توسع فى هذا الدرء ، وقدر آلام الجياع فى تلك المحن المجتاحة..

ذاك تفسير ما روى عنه : إنا لا نقطع فى عام جدب. وقد نقلنا فى مكان آخر رفضه لقطع أيدى الغلمان الذين سرقوا ناقة لابن حاطب بن أبى بلتعة. وظاهر أن مسلكه إجراء استثنائى تجاه ظرف استثنائى ، وأنه نفذ الحد عندما وجب ، ودرأه بالشبهة عندما لم يقم..

• عمر لم يحرم الزواج بالكتابيات :

وقالوا: إن عمر حرم الزواج بالكتابيات معطلا بذلك قوله تعالى (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين).

ونقول: إن الزواج باليهوديات والنصرانيات مباح على الصفة التى ذكر الكتاب العزيز ، من شاء فعل ، ومن شاء ترك ، وفق رغبته ، وقد تقوم حوافز على الفعل أو على الترك لا تغير الحكم الأصلى.

فإذا رأى شخص أن ذلك الزواج وسيلة هداية إلى الحق فعل ، وإذا رأى أحد أن ذلك يجعل سوق المؤمنات كاسدة ترك ، ونصح غيره بالترك ، وهذا ما فعله عمر. قال ابن جرير بعد ما حكى الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس فى المسلمات أو لمعنى آخر. ثم قال: تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر خل سبيلها! فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها؟ فقال عمر: لا أزعم أنها حرام ، ولكنى أخاف على المؤمنات أن تزهدوا فيهن وتقبلوا عليهن ، أو كما قال.

ونظرة عمر موضع تقدير ، وهى لا تلغى نصا كما رأيت ولكنها تستلفت النظر إلى مصلحة اجتماعية تجعل تناولنا للمباحات أدق وأرشد..

وللفقهاء بحوث فى جواز تقييد المباح ، وفى عصرنا تجنح حكومات كثيرة إلى حظر الزواج من الأجنبيات على رجال السلكين السياسى والعسكرى ، وإنما تفعل ذلك حفاظا على أسرارها وأمانها..

ويرى الشاطبى أن تقييد المباح لا شئ فيه إذا كان من دائرة "العفو" أى مما سكت الشارع عنه ، أما إذا كان هناك نص بالإباحة فلا مكان لقيد ما ، حتى لا نحرم ما أحل الله..

وهذا نظر دقيق. وفى قضية الزواج باليهودية التى كرهها عمر نراه أكد أصل الحل والحرمة ، ولكنه كره من رجل كبير مثل حذيفة بن اليمان أن يسئ إلى المؤمنات بما قد يضيرهن..

إن المصلحة لابد من رعايتها ، ومعنى النص الشرعى أن المصلحة قد ارتبطت به أبدا ، فهو دليلها وضمانها ، وأى تعطيل له فهو خدش للمصلحة أو تطويح لها.

ونحن نلحظ فى العقوبات الشرعية المنصوص عليها أنها تناولت عددا معينا من الجرائم ، فالحدود المقررة تعد على الأصابع.. ويستطيع الحاكم فى جرائم لا تحصى أن يضمن المصالح بما شاء من عقوبات.

هناك جرائم الربا والغصب والفرار من القتال والغش والخيانة وأكل مال اليتيم وكل أنواع المال والعرض والدم التى لا تتناولها الحدود أو ضروب القصاص ، وهذه سيئات كثيرة ، ودائرة التعزير تسعها ، والقضاء يقدر على إرصاد ما يرى من عقوبات تحفظ مصالح الأمة وتقر الأمن هنا وهناك.

• إمضاء أمر الله نماء وبركة :

إن المصلحة لا يمكن أن يحفظها تعطيل نص ، فإن إمضاء أمر الله نماء وبركة. وفى الحديث أن أبا هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " حد يعمل فى الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا " .

وعندما يشكل المجتمع بالوعد والوعيد والرغبة والرهبة وفق أوامر الله سبحانه ، فإن الرخاء يعم والشؤم يستخفى ، والمخاوف كلهن أمان..

والفقه الصحيح أن نتعرف على المصلحة حيث لا نص ، وأن نجتهد فى تفهمها ثم فى تحقيقها ناشدين إرضاء الله وخير الأمة..

الإسلام مثلا لم يضع رسما محددا لأسلوب الحكم ، وإنما وضع له أخلاقا ترعى وقيما تصان ، فكيف نولى حاكما؟ وكيف نعزله؟ أو كيف نحاسبه ونراقبه؟ ما هى أجهزة الشورى؟ وكيف نستوثق من التقاء الآراء الناضجة فيها؟ وكيف تمضى فى مجراها دون إرهاب أو إغراء؟

للأمم فى هذه الميادين أن تجتهد فى وضع النظام الذى يحقق مصلحتها دون ما قيد.

وأذكر أن أحد الناس سألنى ـ ورئيس الجمهورية يختار لبضع سنين ـ فقال: أليست هذه بدعة..؟!

قلت: ما البدعة؟ قال: توقيت مدة الرياسة.. فإن الأصل اختيار الحاكم مدى الحياة!

قلت له: التوقيت والإطلاق سواء من الناحية الفقهية ، وتتواضع الأمم على ما تراه أكفل لحقوقها ، فإذا آثرت أن يكون اختيار الحاكم لأمد معلوم فلها ذلك..

قال: كان اختيار الخليفة الأول مدى الحياة..

قلت: آثر الصحابة أحد الوجوه ، ولا تحريم للوجه الآخر..

قال: ألا يكون سنة؟

قلت، لا.. لا سنة إلا بنص، ولا نص هنا.

إن فعل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد يكون دليل إباحة ، وقد يكون دليل أفضلية ، ولا وجوب أو ندب إلا بدليل ، أو بنص.

وفى مجال المصالح المرسلة يستطيع الساسة المسلمون أن يصنعوا الكثير لأمتهم ، على ألا يصطدموا بنص قائم ، فإن هذه النصوص معاقد المصلحة العامة وإن عميت عن ذلك أنظار.

وتتصل النصوص بنوعين من السلوك يغاير أحدهما الآخر ، وذلك التغاير يرجع بدءا إلى الطبيعة البشرية. فهناك أعمال محتومة يباشرها الناس دون انتظار وحى ملهم كالزواج مثلا ، فإن البشر من بدء الخليفة اتجهوا إليه إجابة لغرائزهم وبقاء لنوعهم وتجميلا لمعايشهم.. فلما جاء الدين كان إرشاده لهذا النوع من السلوك: رفض الزواج بالمحارم ، وبناء الأسرة على الاختيار لا على الإكراه ، وتشريع آداب كثيرة فى العلاقات الجنسية وما ينشأ عنها.

وقد تبايع الناس قبل مجىء الوحى ، فلما بعث الله رسله هذب المعاملات التجارية وصانها من الغش والربا والاحتكار وغير ذلك من تطلعات الأثرة والجشع.

فالتشريع فى ميدان المعاملات ـ كما قال فقهاؤنا ـ يقوم على رعاية المصلحة وضبطها ، ثم إشراب هذه المعاملات رقابة الله وانتظار ثوابه.

لكن هناك تشريعات أخرى تتصل بعبادة الله سبحانه. إننا قد نعرف ربنا بفطرتنا السليمة ، بيد أن الأسلوب الذى نترجم به عن حبنا له وعن خضوعنا وإخلاصنا ليس من وضعنا نحن.. إنه من حق الله وحده ، فهو الذى يعرفنا بأسمائه الحسنى وهو الذى يعلمنا كيف نصلى له ، وكيف نصوم ، وكيف نحج بيته العتيق!

إن نصوص العبادات والمعاملات سواء فى ضرورة الاحترام والإنفاذ ، ومن حسن الفقه أن نعرف المحور الذى تدور عليه التعليمات الدينية فى كلا المجالين.

وفى ذلك يقول الإمام الشهيد "ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه ، وفيما يحتمل وجوها عدة ، وفى المصالح المرسلة ، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية ، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات ، والأصل فى العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعانى ، وفى العادات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد" .

----------( يُتبع )----------
#محمد_الغزالي
#دستور_الوحدة_الثقافية_بين_المسلمين
كلمة حرة
نشر في 14 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع