Facebook Pixel
الخلاف شؤم والفرقة عذاب!
1287 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

عن الخلاف الفقهي وتعدد المذاهب، ومصداق ذلك رأيته فى تاريخ الأمة الإسلامية، من كتاب الدستور الوحدة الثقافية بين المسلمين للكاتب محمد الغزالي

كتاب : دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 6 ] : الخلاف الفقهي وتعدد المذاهب

الخلاف شؤم والفرقة عذاب ! .. ولم أر مصداق ذلك فى شىء كما رأيته فى تاريخ الأمة الإسلامية.

إن المطارق التى هوت على أم رأسها ، وجعلتها تجثو بين أيدى أعدائها ، كانت من الداخل لا من الخارج!

حدث ذلك فى تاريخها القريب والبعيد ، وجنت الأمة من وراء انقساماتها الصاب والعلقم..!

فكان لزاما على أولى الألباب أن يدرسوا هاتيك الأوضاع ويكشفوا عللها ويجنبوا المستقبل ما وقع فى الماضى.

وفى تجوالى بأرجاء العالم الإسلامى رأيت اختلاف الفقهاء من ألف عام ويزيد ، يقسم المسلمين طوائف متباعدة ، ويغرى الرجل أن ينظر إلى أخيه شزرا فى قضية علمية خفيفة الوزن! وربما رفض الصلاة خلفه!

ثم تنضم إلى الخلاف الفقهى قضايا شخصية ومنفعية تخص هذا أو ذاك ، فإذا الإخاء الإسلامى يذوب والخصومات الخبيثة تضرى وينشغل المسلمون بعضهم ببعض.

والكاسب الأول من هذا الخلاف المشئوم هو الشيطان وأحزابه ، والخسار حظ المسلمين كلهم لا محالة..

• الائمة الأربعة رجال لا لنظير لهم :

درست سير الأئمة الأربعة فوجدت نفسى أمام رجال ليس لهم فى التاريخ الإنسانى نظائر.

كبر غريب على الدنيا، ورغبة فى الله عميقة ، وصلابة تنحسر دونها عوامل الرغبة ، والرهبة.

كانوا على تجردهم ملوكا ، وقد هابهم أصحاب السلطان ، وضاقوا بالتفاف الجماهير حولهم ، وحاولت السلطات أن تستغل لمصلحتها جاههم الدينى.. وهيهات.

ومع تقواهم لله ، فإن توقد ذكائهم ، وسعة علمهم ، واستنارة آفاقهم كان نعتم العون لهم على خدمة الكتاب والستة.

إن الشهرة التى رزقها هؤلاء الأئمة لم تأتهم حظوظا عمياء ، كلا. إنها أتتهم عن جدارة ، وما يقدر منصف على انتقاص المكانة التى هيأها الله لأولئك الفقهاء الأكابر.

• لماذا انقادت الأمة لهؤلاء الأئمة الأعلام؟ :

ويظهر لى أن العالم الإسلامى أعطى مقادته لأئمة الفقه ـ إلى عصرنا ـ ولم يعطها رجال الحديث لسببين:
أولهما: أن الفقه المذهبى يعتمد على السنة كما يعتمد على القرآن الكريم مع بصر أحد بالمعانى والغايات.
والثانى: أن المحدثين ـ إلا قليلا ـ اهتموا بالأسانيد أكثر من المتون ، وشغلتهم العنعنة عن الفقه الرحب ، فلم يحسنوا تقرير الأحكام والمصالح..

والواقع أن الفقه بلا سنة كالسنة بلا فقه جهد باطل..

وبديه أن يكون للأئمة الكبار أتباع مخلصون ، يدورون فى فلكهم.

وبديه أيضا أن يكون هناك من لا يدور فى فلكهم ومن لا يراهم أولى منه بالصواب..

إلا أن الفقه المذهبى مر بأدوار بعدت به آخر الأمر عن منابعه الأولى. فقادة المذاهب كانوا يشرحون الكتاب والسنة ، ويعدون شروحهم اجتهادا مقنعا لهم ولمن معهم.. ولكنهم ما رأوا قط أن الصواب حكر عليهم ، ولا عادوا غيرهم فيما فهموه هم..

ثم جاء الأتباع أخيرا فأخذوا أقوال أئمتهم على أنها الأصل الذى يشرح ، ونظروا إليها كأنها الدين الذى يتبع.

ونشأ عن هذه جفوة بين مقلدى المذاهب المختلفة ، كما نشأت جفوة بين كتب الحديث وكتب الفقه!!

وهذا العوج الثقافى أضر كثيرا بأمتنا.. إننا نعلم أن لكل إمام نزعته العقلية ومنهجه الخاص فى الاستدلال ، بيد أن أحدا منهم لم ير الآخرين دونه ، كما أن شرف أى إمام فى ارتباطه بالكتاب والسنة معا.

وقد ظهر أقوام من المشتغلين بالحديث يطعنون فى الأئمة كلا أو بعضا! وهذا حمق ، ولو أنهم عابوا مقلدى المذاهب فى جمودهم وضيق باعهم لكان ذلك أرشد.

وقد تتبعت نفرا من هؤلاء فوجدتهم بلاء على السنة.. قال أحدهم. إن أبا حنيفة ترك السنة الصريحة وخالف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

قلت: فيم؟ قال: يقتل المؤمن بالكافر! قلت: نعم يقول أبو حنيفة إن المسلم إذا قتل رجلا من أهل الذمة قتل فيه ، ودليله على ذلك من القرآن (أن النفس بالنفس)، فلا فارق بين حر وعبد ولا مؤمن وكافر ، وقد جعل الحديث فى المحاربين ومن لا عهد لهم.

قال: هذا خطأ! .. قلت: خطأ أو صواب ، كيف استسغت أن تتهم إماما بمخاصمة رسول الله وهو يستند إلى أساس دينه ، إلى القرآن نفسه؟!
قال: ترك الحديث الثابت!
قلت: تركُ الحديث الثابت إلى حديث آخر ثابت مقبول ، وتركه إلى القرآن مرفوض؟!
قال: كيف؟ قلت: صح فى السنة أن الفخذ عورة.. وصح كذلك أنها ليست بعورة ، فهل الآخذ بأحد الأثرين تارك للسنة لأنه أهمل الآخر؟ إن ترجيح دليل ليس هجرا للسنة ولا تركا للدين ، ولكن التطاول والجهل هما مظهر الخروج على السنة!

وفى عصرنا هذا انتشر التعصب المذهبى كما انتشر الغباء فى فهم السنة ، ومن ثم احتاج الأمر إلى إسهاب فى عرض الموضوع كله.

المسلمون متفقون على أن كتاب الله وسنة ورسوله هما مصدر التشريع ، وأنهما المرجع الأوثق والأوحد لطالب الحق وناشد الرضوان الأعلى..

وليس بعد قول الله ورسوله مجال لاقتراح آخر ، أو مسلك مغاير!

فإذا كان الأمر كذلك ، فما هذه المذاهب التى اعتنقها الناس وتوزعت عليها الأمة .

الواقع أن كلمة مذهب لا تعنى إلا "وجهة نظر فقيه ما فى فهم النص السماوى"!

ووجهة النظر هذه لا عصمة لها ولا قداسة. إنها تفكير بشرى فى فهم الوحى الإلهى ، فالتعويل على الوحى ، والكرامة فى الانتماء إليه وحده..

ونتساءل: هل كل فكر فى فهم الوحى يقبل من صاحبه؟ والإجابة: إن التفاوت بين الناس فى الإدراك والاستنباط حقيقة معروفة ، والتشريع أمر خطير ، فلابد من صلاحية ذهنية وخلقية ترشح لهذا المستوى.

نعم هناك حقائق شرعية يستوى الخاصة والعامة فى دركها ، كأصول العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات.

ومبادئ هذه المعرفة قد تكفى وتغنى فى ميادين كثيرة.. لكن الحياة أعقد من أن تسيرها المبادئ القريبة. وفى أيام السلام والقتال قد تجد شئونا تحتاج إلى العقول الكبيرة والتوجيهات العميقة ، وهنا لابد من انتظار رأى الخاصة والإفادة من خبرتهم.

وفى هذا يقول الله تعالى ناعيا على بعض القاصرين : (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).

ويقول جل شأنه منوها بمكانة الاخصائيين وضرورة الرجوع إليهم: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

وأهل الذكر ، أو أهل الاستنباط ليسوا طبقة من الكهنة أو نفرا من أصحاب السلطة ، بل هم رجال من صميم الناس توافرت لهم الإمكانات العلمية التى تجعلهم موضع الثقة.

والمنابع التى تفد بهؤلاء دافقة على امتداد الزمان والمكان ، فلا تحكير ولا استغلال..

قد تقول: هل يفكر هؤلاء لنا؟ ونسارع فنقول: بل نفكر معهم.

واذا كان لهم سبتهم أو امتيازهم ، فإن الله وهب لنا ما نقدر به على التمييز والموازنة.

ومن راقه أن يتبع وجهة نظر لأحد هؤلاء العباقرة ، أو أن يمشى وراءه باستمرار فله ذلك ، ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها..

وهنا يجىء السؤال الأهم: إذا كان مرجعنا نحن المسلمين هو الكتاب والسنة ، فلماذا انشعبت هذه المذاهب ، أو وجهات النظر ـ كما تعبر أنت ـ وفرضت نفسها على الأمس و اليوم؟

ونقول: إن اختلاف العقول أمر طبيعى ، ومن العسير جمع الناس على مذهب واحد فى الفكر والاستنتاج. وتصور أن الأمة الإسلامية يمكن جمعها أو كان يمكن جمعها على وجهة نظر واحدة فى فهم النصوص الواردة ، شىء مستحيل أو قريب من الاستحالة..

• مقررات قبل بيان أسباب الخلاف المذهبى :

وقبل أن نذكر الأسباب العادية لوجود المذاهب الفقهية ، نحب أن نقرر أمورا ذات بال فى مجال الثقافة الإسلامية:

1ـ إن المتفق عليه كثير جدا ، وإن التشبث به وحده كاف فى النجاة. فالإيمان بالله ولقائه والسمع والطاعة لما جاء عنه ، وأداء الأركان المجمع عليها فى ميدان العبادات وترك المعاصى المجمع عليها فى ميدان المحظورات ، وبناء النفوس على مكارم الأخلاق وأشرف التقاليد… إن هذا كله يقيم أمة لها مكانتها فى الدنيا والآخرة.

ولكن جماهير من الدهماء ، والأذكياء شغلتها للأسف الخلافات العارضة ، ولم تحسن استثمار ما انعقد الإجماع عليه ، وكادت تضيع الإسلام ذاته بهذا العوج الفكرى.

2- المذاهب الإسلامية الكبرى اختلفت فى الفروع ، لا فى الأصل ، وكان من الممكن أن يتعاون الأتباع فيما اتفقوا فيه ، وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا عليه ، وهذا ما آثره أولو الألباب ، ولكن المرضى بالشقاق عكروا الصفو ومزقوا الشمل.

ولنضرب مثلا لما نقول: إن الإيمان بالله ينمو بالنظر فى الكون ، والتأمل فى التاريخ ، وهذا الإيمان أصل جامع لا ريب فيه ، فلماذا لا نتعاون على تقويته ، وتنميته ، والإفادة منه فى المعاش والمعاد ، بتكثير الوسائل التى ترسخه فى القلب؟ وتضخم آثاره فى الفرد والمجتمع؟

ولماذا لا نتجاوز فى ميدان العبادة قضية: هل على المأموم قراءة فى الصلاة أم تغنى عنه قراءة إمامه؟ فيرى من شاء جواز القراءة ، أو وجوبها ، أو امتناعها ، ونترك له وجهة نظره فلا نضيع الوقت فى مجادلتها ، ونوفر قوانا النفسية والفكرية فى البناء على الأركان الممهدة وهى كما أسلفنا كثيرة؟

3- عند التأمل فى التركة الثقيلة من الخلافات التى ورثناها نجد أن بعضها أملاه الترف العقلى ، وأن بعضا آخر لفظى لا محصل له ، وأن منها ما أشعل ناره الاستبداد السياسى ، واستبقاه عمدا إلى يومنا هذا… وأن منها ما يصح أن يكون مسرحا لنفر من الخاصة ويُعد شغل الجماهير به جرما ، وأن منها ما جمده المقلدون المذهبيون لقصور شائن فى معرفتهم!.

• أسباب الخلاف الفقهى :

ومع ذلك فإن الخلاف الفقهى فى الفروع كان ، ويكون ، وسيبقى ، إلى آخر الدهر ، لأسباب طبيعية مقبولة. ويجب ألا نتطير منه، وألا نحاول قتله أو تجاهله ، ونحن نذكر أطرافا من أسباب الخلاف:

1ـ الطبيعة اللغوية :

هناك كلمات تفيد الشىء وضده. فإذا قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ، فإن الفقهاء قد يختلفون فى تحديد معنى "قرء" أهو الحيض أم الطهر؟ ولا حرج عليهم إذا اختلفوا ، فرأى بعضهم أن المطلقة تعتد بثلاث حيضات ، ورأى آخرون أنها تعتد بثلاثة أطهار!

ومن ذلك اختلاف الفقهاء فى تفسير كلمة (أو لامستم النساء) ـ عند إحصاء
دواعى التطهر ـ هل اللمس المراد أى لمس؟ أو هو لمس خاص؟ ونشأ عن ذلك القول بأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء لأن الآية تعنى الاتصال الجنسى ، والقول الآخر أن اللمس ينقض الوضوء لأن المراد باللفظ العموم.

ومن ذلك الخلاف بين الجمهور وبين الظاهرية فى كفارة الظهار.. فإن الظاهرية يرون وجوب الكفارة عند تكرار الظهار، وغيرهم يراه عند نقض الظهار الأول.

وسبب الخلاف هو فى تفسير حرف الجر فى قوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) هل المقصود يعودون فيما قالوا بالإبطال، أو يعودون إلى ما قالوا بالتكرار.. لاسيما أن الآية اللاحقة تذكر "اللام" بمعنى إلى (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه).

وقد يختلفون فى معنى الأمر الوارد فى النص: هل هو للوجوب أو للندب؟ كالأمر فى قوله: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله).

فالأمر بالإشهاد للوجوب عند البعض ، واحتج بما احتف به من تشديد ، وذهب غيرهم إلى استحباب الإشهاد فقط.

ولقائل أن يقول: إن السنة المطهرة توضح المراد فى هذه القضايا ، فلا مكان للاختلاف.

ومن المجمع عليه ـ كما أسلفنا ـ أن اتباع الرسول دين ، وأن رفض كلامه مع الاستيقان من أنه قاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعد انسلاخا عن الإسلام..

بيد أن السنن المروية منها المتواتر الذى لا يغيب عن مسلم ، ومنها الآحاد التى يستحضرها بعض وتغيب عن آخر وقد يعرفها ولكنه يرجح عليها ما هو فى نظره أقوى منها وأحق بالقبول..

فهناك من يعطى المرأة حق مباشرة عقد الزواج إيثارا لظاهر القرآن الكريم الذى يقول: (حتى تنكح زوجا غيره).

وإسناد العقد إليها حقيقة لا يوهنها ما جاء من أخبار مخالفة.

ويرى كثيرون بطلان مباشرة المرأة لعقد الزواج للحديث الوارد "أيما امرأة أنكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل " .

وهناك من يرى الجلد وحده هو حد البكر إذا زنى ، مكتفيا بالنص القرآنى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) ويرى آخرون ضم النفى أو السجن سنة إلى ذلك أخذا بحديث وارد فى الموضوع.

وهناك من يرى أن أحكام صلاة الخوف، وتوحيد الإمامة فى شخصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما ذلك خاص به لقوله تعالى : (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) الخ.

ويرى آخرون وحدة القيادة والإمامة فى جبهة القتال على اختلاف الزمان والمكان محتجين بآثار مروية.. وهناك من يقتل المسلم قصاصا ممن قتلهم من المسلمين أو الذميين لعموم قوله تعالى (أن النفس بالنفس)، وقوله بعد (وأن احكم بينهم بما أنزل الله). ويرى آخرون أن المسلم لا يقتل فى الكافر مستشهدين بما ورد فى ذلك عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ..

وأعرف فى عصرنا بعض العلماء الذين يرون أن آية النور فى حد الزنا نسخت حد الرجم الذى كان مقررا فى السنوات الأولى بعد الهجرة ، ولم أر من قال ذلك إلا نفرا من المعتزلة والخوارج.

وهم يستشهدون بآية النساء فى نكاح الإماء وجواز ذلك للأحرار من الرجال: (بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن ـ أى تزوجن ـ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب). ـ يعنى الحد ـ والرجم لا ينصف، فلابد أن الحد هو الجلد، وجمهور المسلمين ضد هذا الرأى..!

وقد ألف أحمد بن حنبل رسالة فى الرد على من يستغنون بظاهر القرآن عن السنن المفسرة له ، وهذا يتأدى بنا إلى الحديث عن سبب مهم من أسباب الخلاف الفقهى.

2- أحاديث الآحاد ودورها فى التشريع

: كتب الإمام ابن تيمية رسالة جليلة فى أسباب الخلاف بين أعلام الأئمة كان فيها قمة من قمم العلم والنصفة.

صور وجهات النظر المتباينة بأمانة وإحاطة دون أن يكون لرأيه الخاص أثر فى تشويه رأى معارض. نعم ، أجمل أسباب الخلاف ، وحدد نتائجه ، فى حياد نزيه ، ولمن شاء أن يقرأ رسالته "رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ليستفيد منها فوائد جليلة…

وقد ذكر عشرة أسباب للخلاف الفقهى ودور أحاديث الآحاد فى تعدد المذاهب ، ونحن نقتطف منها ما يشرح القضية، متصرفين فى العبارة على نحو يقرب المعنى إلى القراء المعاصرين.

أ‌) ربما لا يبلغ الحديث الفقيه المجتهد ، فإن الأحاديث كثيرة والإحاطة بها متعذرة. وقد كان أبو بكر لا يعلم السنة فى ميراث الجدة حتى أخبره من يرويها. وكان عمر لا يعلم سنة الاستئذان حتى اطلع عليها من أبى موسى الأشعرى وغيره ، وكان لا يدرى حكم المجوس فى الجزية حتى ذكر له عبد الرحمن بن عوف حديث "سنوا بهم سنة أهل الكتاب " .

ومن لم يبلغه حديث ما ربما اعتمد على ظاهر آية أو على حديث آخر ، أو على قاعدة عامة ، أو لجأ إلى القياس… إلى غير ذلك.

وعندى أن الأحناف لم يجيزوا الجمع بين الصلاتين فى السفر ـ وأحيانا فى الحضر ـ لأن السنن فى ذلك لم تبلغهم ، وأسانيدها قائمة .

ب‌) قد يبلغ الحديث الفقيه ، ولكنه يرفض سنده لعلل قادحة فيه، وربما بلغ غيره بسند أجود فيأخذ به. والخلاف بين العلماء فى تقويم الرجال ، وبالتالى قبول المتون أمر شائع.

جـ ) من الفقهاء من يشترط فى قبول خبر الواحد شروطا لا يوافقه غيره عليها، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على كتاب الله وسنة رسوله ، أو اشتراطه أن يكون المحدث فقيها ، فإن جودة الحفظ لا تغنى عن حدة الذهن ، أو اشتراطه فى كل أمر شأنه العموم أن يجىء من طرق كثيرة فإن انفراد واحد وحسب بحديث فى قضية عامة مشهورة قد يثير التهمة.

د ) اعتقاد ضعف الحديث لفكرة خاصة ، فإن كثيرا من الحجازيين مثلا يرون ألا يحتجوا بحديث رواته عراقيون أو شاميون إن لم يكن لهذا الحديث أصل بالحجاز. ومع أن الحجاز هو البيئة الأولى للسنن الأولى فإن هذا الاعتداد بالأسانيد الحجازية وحدها رأى خاص.

هـ ) أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده ولكنه نسيه. وذلك كنسيان عمر لحديث التيمم من الجنابة حتى ذكره به عمار بن ياسر… وكأن عمر رضى الله عنه لم يفهم من القرآن إلا أن التيمم يرفع الحدث الأصغر وحده.

وعدم العلم بدلالة الحديث ، مثل ما ورد "لا طلاق فى إغلاق " : هل الإغلاق هو الإكراه؟ أم هو استغلاق الذهن وانسداد أبواب الفهم لسبب عارض ، كالغضب الشديد أو سبب مستمر كالجنون أو العته..؟ وقد اختلفت الفتاوى باختلاف الأفهام فى الكلمة.

و ) وقد يكون اللفظ مشتركا أو مجملا، أو مترددا بين الحقيقة والمجاز ، فإن بعض الصحابة فهم من قوله تعالى: ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)، أن المراد حبل أبيض وحبل أسود، حتى عرفهم الرسول بأنه بياض النهار وسواد الليل.

وربما كانت دلالة النص خفية لا يلحظها كل ذهن. قال أحد الدعاة لعامل يغالى فيما له من مطالب ، ويفرط فيما عليه من واجبات: أنت من المطففين الذين تناولتهم الآية: (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )، والتشابه بين المسلكين موجود.

ز) اعتقاد الفقيه أن لا دلالة فى الحديث على ما يراد.. والفرق بين هذا وما قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة ، أما هنا فقد عرف الجهة وردها لسبب قائم عنده.. وقد ذكر ابن تيمية مصطلحات فنية من علم أصول الفقه تعنى المتخصصين ، ونرى أن نستبدل بها أمثلة أوضح ، فإن اختلاف العلماء فى دلالة الكلام ميدان واسع : خذ مثلا حديث "إنما الأعمال بالنيات " . هل المقصود كمالها أم صحتها؟

وحديث " لا يدخل الجنة نمام " . هل يمتنع دخوله على التأبيد، أم لا يدخلها مع الأفواج الأولى ، ويقضى فى جهنم ردحا من الزمن؟

وحديث " لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ". هل يكون كافرا ، أم الإيمان موجود مشلول؟

فإذا تجاوزنا هذه القضايا المفردة إلى قضايا أعم وأهم وجدنا الرأى يختلف اختلافا بعيد المدى.

تحدث ابن تيمية عن القتال الذى يدور بين المسلمين والكفار، فتساءل: ما سببه؟ هل العدوان سبب المقاتلة أم مجرد الكفر…!

الأول قول الجمهور كمالك وأحمد بن حنبل وأبى حنيفة وغيرهم.

والثانى قول الشافعى وربما علل به بعض أصحاب أحمد .

وشرح ابن تيمية فى رسالته الآثار السيئة المترتبة على القول الثانى ، والتى ترجح رفضه ، ثم قالى مؤيدا الرأى الأول : "وقول الجمهور هو الذى يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار فإن الله سبحانه يقول : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) فقوله الذين يقاتلونكم تعليق للحكم بأنهم يقاتلوننا فدل على أن هذا علة الأمر بالقتال. ثم قال: (وَلا تَعْتَدُوا ) ، والعداوة مجاوزة الحد ، فدل على أن قتال من لم يقاتلنا عدوان. ويدل عليه قوله بعد هذا : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، فدل على أنه لا يجوز الزيادة.

ثم قال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). والفتنة أن يفتن المسلم عن دينه كما كان المشركون يفعلون ، فلما كانت لهم سلطة حينئذ يجب قتالهم حتى لا يفتنوا أحدا ، وهذا يتحقق بعجزهم عن القتال… ولم يقل جل شأنه: وقاتلوهم حتى يسلموا… الخ. ثم قال: وادعت طائفة أن هذه الآية منسوخة… وبعد أن حكى قولهم قال: إن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل، وليس فى القرآن ما يناقض هذه الآية، بل فيه ما يوافقها، فأين النسخ؟

أقول: ونحن نستغرب من بعض المفسرين ولوعهم بذكر النسخ حتى ليكاد يكون ذلك مرضا عند السيوطى غفر الله له ، فقد حكم بنسخ عدة مئات من الآيات متعلقا بآراء ومرويات تافهة.

من ذلك ما حكاه من نسخ قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) قال ابن تيمية فى تسخيف هذا القول : وجمهور السلف والخلف على أنها ليست مخصوصة ولا منسوخة ، بل يقولون: إنا لا نكره أحدا على الإسلام ، وإنما نقاتل من يحاربنا.

وقد ذكرنا الأسئلة التى ذكرناها فى تعرف دلالات الكلام ، ووجوه الأحكام ، ليدرك القراء من أين يجىء الفقهاء بآرائهم ، ولماذا يختلفون مع أنهم جميعا يستقون من الكتاب والسنة.

ح ) وقد تتساوى الدلالات المختلفة فى إفادة معان كثيرة، ويصعب ترجيح وجهة على أخرى. قال ابن تيمية: "مثل معارضة العام بخاص ، أو المطلق بمقيد ، أو الأمر المطلق بما ينفى الوجوب أو الحقيقة بما يدل على المجاز ، إلى أنواع المعارضات الأخرى وهو باب واسع فإن تعارض الدلالات وترجيح بعضها على بعض بحر ضخم ".

نقول: وينضم إلى هذا أن تختلف المرويات اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ، فقد وردت كلمات الأذان ببضع عشرة صيغة ، وترجح لدى كل فقيه سند ، أو سبق إلى علمه ، وظاهر أن رسول الله أقرها كلها. ومثل ذلك كثير.

قال الشيخ عبد الجليل عيسى:

ثبت فى الصحيح أن ابن عباس صلى على جنازة فقرأ بأم القرآن جهرا ، وذكر أنه فعل ذلك ليعلم الناس أنها سنة. وذلك أن الناس فى صلاة الجنازة على قولين ، منهم من لا يرى فيها قراءة بحال كما قال كثير من السلف وهو مذهب أبى حنيفة ومالك ، ومنهم من يرى القراءة فيها سنة كقول الشافعى وأحمد لحديث ابن عباس هذا وغيره. ثم من هؤلاء من يقول: القراءة فيها واجبة كالصلاة، ومنهم من يقول : بل هى سنة مستحبة ليست واجبة. وهذا أعدل الأقوال الثلاثة ، فإن السلف فعلوا هذا وهذا وكان كلا الفعلين مشهورا بينهم ، كانوا يصلون على الجنازة بقراءة وبغير قراءة ، كما كانوا يصلون تارة بالجهر بالبسملة وتارة بغير جهر وتارة باستفتاح وتارة بغير استفتاح وتارة برفع اليدين فى المواطن الثلاثة وتارة بغير رفع وتارة يسلمون تسليمتين ، وتارة تسليمة واحدة وتارة يقرءون خلف الإمام بالسر وتارة لا يقرءون ، وتارة يكبرون على الجنازة سبعا وتارة خمسا وتارة أربعا. كان فيهم من يفعل هذا وفيهم من لا يفعل هذا.

كل هذا ثابت عن الصحابة ، كما ثبت عنهم أن فيهم من يرجع فى الأذان وفيهم من لم يرجع فيه ، ومنهم من يوتر الإقامة وفيهم من كان يشفعها ، وكلاهما ثابت عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم .

فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر ، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا وقد يكون فعل المرجوح أولى للمصلحة كما يكون ترك الراجح أولى أحيانا لمصلحة أهم.

ط ) قد يكون الفقيه ـ مع جودة حفظه واستنتاجه ـ قد أخطأ فى تقرير المقدمات التى انتهت بالنتيجة التى أرتاها ، وذلك مثل من يقول : لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد! مع أن قبول شهادته محفوظ عن على وأنس وشريح وغيرهم رضى الله عنهم..

ويقول آخر: أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث ، وتوريثه محفوظ عن على وابن مسعود ، وفيه حديث حسن عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم .

ويقول آخر: لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أثناء الصلاة ـ وإيجابها محفوظ عن أبى جعفر الباقر.. ـ

ي ) وأخيرا من الفقهاء من يرد الحديث الصحيح إذا خالف القياس الجلى ، ومنهم من يرده إذا كان عمل أهل المدينة المنورة على خلافه ، فإن عملهم أدل على السنة من خبر الواحد ـ كما ذكرنا عن مالك ـ.

وقد رأى ابن تيمية أن ذلك خطأ ، وأن الحديث أولى بالتقديم من القياس ومن عمل أهل المدينة. قال ابن تيمية: ومن ذلك دفع الخبر الذى فيه تخصيص لعموم الكتاب ، أو تقييد لمطلقه ، أو تضمن زيادة عليه ، اعتقادا منه أن التخصيص ، والتقييد والزيادة نسخ ـ وهذا رأى أبى حنيفة ـ.

والسنة لا تنسخ القرآن ، فيبقى الحكم كما تقرر فيه وبصرف النظر عن هذه الأحاديث… وللأحناف فى ذلك كلام طويل يرجع إليه فى كتبهم من شاء .

----------( يُتبع )----------
#محمد_الغزالي
#دستور_الوحدة_الثقافية_بين_المسلمين
كلمة حرة
نشر في 14 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع