1237 مشاهدة
0
0
أحيانا الناقدين ولو على نحو غير واعٍ يعمدون إلى جعل نقدهم ساخراً مهيناً، لكي ينال مستلزمات " مسح الأرض" ويلقى الرواج المطلوب
" فلان مسح بعّلان الأرض"...هذا هو التعبير الذي يقال كثيراعندما يوصف " نقد" فلان لعلّان ...أو هجومه عليه..أو تهجمه عليه.
مسح الأرض...هكذا يوصف النقد، وهذا يمنح فورا النقد صفات الإهانة والسخرية والنسف...
بل أن هذا الوصف، يجعل أحيانا الناقدين - ولو على نحو غير واعٍ -يعمدون إلى جعل نقدهم ساخرا مهينا، لكي ينال مستلزمات " مسح الأرض" ويلقى الرواج المطلوب عند جمهور لا يقتنع بالنقد " العادي" ما لم "يرق" _!_ إلى مستوى مسح الأرض ومتطلباته.
ثم يقال بعد كل هذا، أن على الجميع تقبل النقد بصدر رحب ..والإفادة منه...
لكن هل هذا جو يمكن أن ينتفع فيه بالنقد؟ هل حلبة صراع الديكة - في الغالب، إلا ما رحم ربي- تصلح لتكون مكانا لتبادل النفع؟
كيف يمكن لنا أن نستفيد من النقد؟
من السهل الحديث والنصح عن تقبل النقد بصدر رحب، لكن من الصعب تحقيق ذلك، من السهل خصوصا عندما نقوم بنصح من يوجه له النقد بذلك...لكن عندما نكون نحن من يوجه له النقد، فذلك أصعب بكثير.
أقر أولا وقبل كل شيء، أن المنشور يعبر عن تجربتي الخاصة مع النقد، ليس سرا أني لست ألطف الأشخاص في تقبل النقد، علما أني أعتقد أن لا أحد يحب النقد، لكن هناك درجات متفاوتة في عدم الشعور بالانزعاج، أو عدم إظهاره على الأقل.!
أول خطوة في الانتفاع من النقد تأتي من عدم الرد عليه، على الأقل عدم الرد بسرعة.
كل الردود السريعة التي رأيتها - والتي قمت بها أحيانا- كانت عاطفية يغلب عليها طابع "الرغبة في رد الصفعة"..أو إظهار الناقد بمظهر ضعيف عبر تبيان أخطائه في نقده.
لكن لا استفادة مما يمكن أن يكون قد كان صائبا في النقد، كما أن "طريقة الرد" تدخل الأمر كله في متاهة الرد والرد المعاكس ( علما أن طريقة البرنامج الشهير إياه قد أثرت فعلا في طريقة تعاطينا مع النقد، لقد قام ببهدلتك، كيف ترد عليه؟).
الحل برأيي هو في تأجيل الرد. وربما من الأفضل أصلا عدم الرد في بعض الأحيان...
الرد الآجل، على العكس من العاجل، يفرغ الرد من الإنفعال العابر الناتج عما يمكن أن يكون في " النقد" من تعريض شخصي أو استهزاء ( وكثيرا ما يحدث ذلك) ، بعد مضي فترة، يزول الغضب الناتج عن الشخصنة وتستطيع التركيز على موضوعية الرد، حتى لو لم يفعل الناقد ذلك، إذ أن وجود شخصنة في النقد لا يعني أن كل نقده خاطئ...ربما كان هناك ما يستحق الموضوعية والرد رغم التعريض والشخصنة.
فعلت ذلك شخصيا مع سيل من الردود التي انهالت عقب إحدى حلقات أنتي إلحاد، وكان في الردود ما فيها من خليط بين ما هو شخصي وموضوعي، ولكن لأن " الجمهور" يتفاعل أكثر مع " مسح الأرض" فقد طغى ما هو شخصي على تلك الانتقادات، ردتت بعد قرابة الشهرين، فتجاوزت تماما كل إساءة شخصية ظهرت في الانتقادات، وركزت على " جوهرها" - دون أي إشارة سلبية شخصيا للمنتقدين- وكانت النتيجة مقالا أقرب إلى " الكتيب" عن عموم الردود على " تأييد نظرية التطور" دون أن يكون هناك شخصنة أو مسح أرض أو صراع ديكة.
ثاني خطوة يمكن أن ننتفع منها من النقد، هي في تصنيفه، النقد ليس سلة واحدة وليس كل من ينتقدك يملك نفس الدوافع التي يملكها الجميع، لذا فتصنيفك للنقد سيجعلك أقدر على الانتفاع منه او تقوية موقفك..
هناك أولا - النقد المؤدلج - وهذا نقد يحكم عليك قبل أن تتفوه بكلمة، كل ما تقوله سيفسر وفق منظار حزبي مسيس يعتمد على مواقفك ( أو لا مواقفك) دون أن يقول ذلك صراحة بالضرورة. هذا النقد لا داعي للرد عليه على الإطلاق ولا حتى الإنزعاج منه. هذا النقد لا يمس محتوى ما قدمته بقدر ما يتعلق برغبة الناقد في الدفاع عن " آيديولوجيته". هذا حقه. لا معنى للرد.
ثانيا- هناك نقد صادر عن مرجعية ثقافية مختلفة، وهو أمر أعم و أشمل من النقد المؤدلج، كأن ينتقد السلفي " منتجاًحداثياًًو" أو ينتقد الحداثي منتجاً تنويرياً. هذ الأمر طبيعي تماما، بل ومحترم، ويجب هنا فهم فكرة " الفئة المستهدفة" والهدف من المنتج كي نتقبل النقد أو نمرره، لا معنى أيضا في الرد هنا لعدم وجود لغة مشتركة، وكلما كانت اللغة المستخدمة في النقد محترمة، يجب أن يزيد احترامنا للناقد( ويحدث فعلا ذلك أحيانا، لكنه نادر للأسف).
ثالثا - نقد يتتبع ويتصيد ويتسقط " الغلطات" أو ما يعدها غلطات...حسنا، الأمر مؤلم، لكن ماذا نتوقع من النقد؟ أن يشيد ويمدح؟ علينا أن نتقبل الأمر على ثقله، قد يكون ذلك مختلط بشخصنة وتعريض شخصي واستهزاء، للأسف يحدث فالناقد في النهاية بشر، وكونه قد أخطأ في شيء فهذا لا يعني أن محور نقده كان خاطئا، يمكن الانتفاع من النقد هنا عندما نعزل " الشخصي" عن " الموضوعي" -أي بعد مرور فترة من الوقت، وكلما كانت " مواضع الانتقاد" واضحة ومحددة، كلما كانت الفائدة أكبر. أما النقد العام المرسل فالانتفاع منه أقل للأسف - ولا يعني هذا عدم صوابه).
رابعا - النقد الذي لم يقرأ ولكنه سمع أو قرأ ما قاله آخرون، هذا هو الأسوأ...سواء كان ينسفك أو يشيد بك، الآخرون بذلوا جهدا لينقدوك، هذا لم يعطك حتى هذا الوقت.
وجود دوافع نفسية في هذا النقد أمر لا مفر من تقبله، ربما كان أمرك " حديثا عاما" وأحب أن يشارك هو فيه بدلوه سلبا أو إيجابا، أو ربما له دوافع أخرى الله أعلم بها، بكل الأحوال، لا داعي للرد. هو لم يقرأ. لا تقرأ أنت أيضا.
خامسا - النقد الذي ينتقص فحسب. وهذا يختلف تماما عن " ثالثا"...ذاك يحدد أمورا معينة يعيبها عليك...هذا مختلف، هذا ينتقص منك بالجملة ودون أن يبرز ما يؤكد أنه اضطلع فعلا ..رائحة الأمر واضحة جدا من خلال لغته الانتقاصية ..في الغالب هذا الناقد لديه مشكلة مع آخرين أيضا، ومشكلته الأصلية هي مع نفسه، وربما ستتعاطف معه لو عرفتها، لذا لا داعي للرد ايضا...
لكن فللنتبه هنا أن تفسير كل نقد بكونك شجرة مثمرة أو " الغيرة" ..أو "أعداء النجاح" أو مقولات " في البداية يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك ثم تنتصر...إلخ"..هو تفسير سيء جدا ومضر " للمنتقد" - بفتح القاف- رغم أنه تفسير مريح مرحليا...الأمر يحدث أحيانا، ولكن ليس دائما، هناك من ينتقدك لأنه يريد أن يكون مكانك، وهناك من لا يفكر بذلك، قد تكون شجرة مثمرة، وقد تكون شيئا آخر يراد إبعاده برميه بالحجارة...دور الشهيد الضحية الذي يغارون منه حقيقي ولكنه نادر، وإذا أخذت نفسر كل نقد بهذا ( وهو أمر جذاب جدا) فستنتهي إلى أن تكون مصابا بهوس الارتياب...بل أن حتى الذين يغارون أحيانا يكون لديهم ما هو صواب فيما يقولون..
لكنك ستتفهم ذلك أكثر، عندما تتعامل معه بعد فترة، وسيمكنك أن تحدد ما هو مصيب من كلامه...
أخيرا، أولاد الكار الحقيقيون ليسوا نقادا على الإطلاق. هذا شيء وذاك شيء مختلف تماما...
أولاد الكار " عيونهم في أوراقهم" ..كما يقول لنا المراقب في قاعة الامتحان...عينك في ورقتك...لا تنظر لورقة غيرك...أولاد الكار هكذا...يركزون في نتاجهم..
ولا يقلل هذا ابدا من " النقد" وفوائده، كل ما في الأمر أن ثمة تقسيم للعمل.
كم أخذت من الوقت إلى أن وصلت لهذا؟
كثيرا..للأسف.
نشر في 29 حزيران 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع