1095 مشاهدة
0
0
أنت تحكم على رؤيتك حسب الجهة التي تقف عندها من التجربة، فالحياة حشد من الإختيارات الطفيفة في كل مرة، لكن كل اختيار يقودك لمنعطف جديد
في طفولتي ذهبتْ أمي بي إلى المدرسة لأول مرة، وبعد جلسة طالت مع مديرة المدرسة ودعتني ورحلت، وهي خيانة لم أتوقعها قط. كنت أحسب هذه الجلسة العابرة هي المدرسة ذاتها، وبعدها نعود للبيت وننسى هذا كله. فجأة وجدت نفسي في قبضة العاملة القوية. رحت أحاول التملص كما يفعل السفاحون الذين يقتادهم عشماوي للمشنقة. كانت المرأة أقوى مني بمراحل، وقد اقتادتني إلى ممر طويل فيه فصول على الجانبين، وسألتني:ـ"هل تريد أن تكون في الطابق السفلي أم العلوي؟"
قلت بلا تفكير وانا أحاول الفرار:
ـ"السفلي"
هكذا تحدد مصير باقي حياتي للأبد: الصف الذي دخلت فيه وقابلت أهم صديقين في طفولتي (أبهج) و(هانئ). وقد تحدد للأبد نمط تفكيري وتكوين شخصيتي. حب القراءة. مجلات سوبرمان والوطواط وتان تان والمختار من ريدرز دايجست، أطالعها مع أبهج الطفل المسيحي الذكي ذي العوينات السميكة. حتى دعاباتي ذاتها. هواية الرسم. حب الطفولة. كراهيتي للتعصب. خجلي. أعدائي. كل شيء حددته إجابة قصيرة من فم طفل هو أنا.
في الثامنة من عمري، أذكر ذلك الزفاف في شبين الكوم. قريبة بعيدة لنا والزفاف في بيتها كعادة الناس قبل اختراع قاعات الأفراح. كان الكل مشغولين مع العروس. وكنت أنا طفلاً لديه تصريح غير مكتوب يتيح له الجلوس مع الرجال، ويتيح له دخول غرفة النساء، حيث تلتف صديقات العروس الخبيثات الضاحكات حولها يقرصنها ويتبادلن الهمس. بعد قليل قتلني الملل. فتحت باب الشقة وخرجت، وسرعان ما كنت أقف أمام البناية ثم درت حولها. وجدت نفسي في منطقة مترامية من الخضرة. مساحة شاسعة لم أرها في حياتي. تحركت ساقاي قبل أن أفهم. كجواد حرون تركضان وتركضان وتركضان. الهواء ورائحة النباتات ولذة الحرية. لابد أنني ركضت نحو عشر دقائق كاملة، ثم تهيأت للعودة.
هنا أدركت في هلع أنني ابتعدت جدًا وأنه من المستحيل أن أتذكر المكان الذي كنت فيه!. رحت أركض نحو ما ظننت أنه بيت أقاربي. قلبي يتواثب. لا شيء. كل مكان يبدو مختلفًا. ليس من هنا بدأت الركض.
أرهقني البحث عن المكان مع الرعب والندم. وهنا وجدت أحد الجيران يقف أمام باب بيته وهو يلتهم ثمرة بلح في تراخ، فسألته عن بيت أقاربي وأنا أتوقع أنه لن يعرف. أدهشني أنه أشار لشارع جانبي فهرعت إليه لأجد البناية الحبيبة!. هذا الرجل قد يكون زانيًا أو لصًا أو سفاحًا لكنه - في تاريخ حياتي - قديس.
ماذا لو لم أصل للبيت؟. لو لم أكن أعرف اسم أقاربي بالكامل؟. ماذا لو ضللت طريقي في الشوارع؟. هل كنت أتحول إلى صبي ضال من صبية الشوارع، أو أعمل عند ميكانيكي وأتلقى ضربات بالمفك على رأسي قبل أن أتعلم.؟ ربما كنت لأصير أشهر ميكانيكي سيارات أو أبرع سباك في شبين الكوم. ربما كنت سأصير لصًا وأتعلم النشل لدى عصابة على طريقة أوليفر تويست. وبعد أعوام ترى صورتي كمسجل خطر في مديريات الأمن. ربما.
نقطة تفرع أخرى جوهرية. وماذا عن النقاط الأخرى؟.
لو لم أحصل على مجموع كاف في الثانوية العامة ودخلت كلية أخرى. ربما دخلت كلية الآداب كما كنت أتمنى أصلاً. كنت أحلم بأن أكون أستاذًا للأدب الإنجليزي لكن أهلي أرغموني على دخول الطب بسبب المجموع العالي. كنت سأقابل زوجتي هناك في كلية الآداب معيدة أو طالبة وليست طبيبة، وكنت سأتزوجها وبالطبع ننجب أطفالاً آخرين تمامًا. أم أخرى لن تأتي للعالم بمحمد ومريم. كانت ستأتي بأطفال آخرين.
نقاط تفرع جوهرية لا حصر لها.
الحياة كلها محيرة وتحمل مفترقات طرق شتى. وكل مفترق طريق يقود لاحتمالات أخرى تمامًا، فلو ضللت طريقي في شبين الكوم وتربيت في الشارع، وصرت ميكانيكيًا، فلربما تزوجت بائعة خضر عرفتها هناك. ولربما هي لا تنجب أصلاً. الخ.
فيما بعد نصحني أحد الأصدقاء الشباب أن أشاهد فيلمًا اسمه (السيد لا أحد) أو (السيد نكرة)، وهو فيلم رائع عرض عام 2009، ويتميز بسيناريو فائق الإمتاع، لكنه كذلك شديد التعقيد.
نقابل رجلاً اسمه نيمو - قام ببطولته الممثل جاريد لوتو - وندرك بصعوبة فكرة الفيلم الهيكلية: ماذا لو اختلف مصير هذا الرجل في كل مرة؟. مثلاً نقابله في جو خيال علمي عام 2092 يحكي قصة حياته لمحرر. يعتقد أنه في العقد الرابع من عمره، ويحكي عن مسار حياته لو اختلف عند نقاط التفرع المهمة:
في سن التاسعة ينفصل أبواه. هنا نرى السيناريو الكامل لحياته لو عاش مع أمه وزوجها، وانغمس في قصة حب غير مشروعة مع ابنة زوج أمه، وهناك السيناريو الكامل لو عاش مع أبيه مع ملاحظة أن أباه سيصاب بالفالج ويكون على الفتى أن يرعاه. نقطة تفرع أخرى في سن 16 سنة حيث يمر بثلاث قصص حب مختلفة مع ثلاث فتيات عرفهن في طفولته. نقطة التفرع الثالثة في سن الرابعة والثلاثين.
في مرة يتزوج من أليس. الفتاة المكتئبة التي ما زالت تحب رفيق مراهقتها. وهي تطلب من نيمو أن ينثر رمادها عندما تموت فوق القمر. في مرة يتزوج فتاة تدعى جوان ويعيشان حياة رغدة رخوة لكنها مملة. في مرة هناك علاقة مضطربة عاصفة مع ابنة زوج أمه. ما هي الحياة الحقيقية؟. ومن هو نيمو حقًا؟
والبطل يلخص مأساته: "عندما كنت أجهل المستقبل، لم أكن أستطيع اتخاذ قرار صحيح. اليوم وأنا أعرف المستقبل لم أعد أستطيع اتخاذ أي قرار نهائيًا!"
الأمور تزداد تعقيدًا عندما نعرف أن نيمو الذي يحكي القصة عام 2092 هو بطل في قصة خيال علمي كتبها نيمو الشاب!
هكذا تتداخل في الفيلم نظرية الفوضى مع تأثير الفراشة. كل اختيار مهما صغر يمكن أن يضعنا في كون آخر مختلف تمامًا. الحرية الحقيقية هي أن تعيش حياة لا ترغم فيها على الاختيار!
هذه باختصار شديد فكرة الفيلم الرائع، وأنت تعرف أن هناك أفلامًا كثيرة ناقشت المصائر المختلفة للإنسان، ومنها مثلاً (اجري يا لولا. اجري) و(الأبواب المنزلقة)، لكن هذا أجملها وأكثرها تعقيدًا.
الآن تعال نتعرف على قطة شرودنجر فهي تفسر كل شيء. أما من يخافون القطط فلهم أقول: إن القطة افتراضية. مثال توضيحي لا أكثر.
فليتسع أفقك وخيالك لأن الموضوع معقد. ربما لا يمكن شرحه جيدًا إلا بالمعادلات، لكنه مفهوم جيدًا لأي شخص درس ميكانيكا الكم (وأنا لست منهم للأسف).
إرفنج شرودنجر Ervin Schrodinger فيزيائي نمساوي له معادلات مهمة جدًا في ميكانيكا الموجات، وثمة معادلة شهيرة باسمه. كان كذلك فيلسوفًا مهمًا قبل أن يموت عام 1961. على فكرة نقشوا نظرية الموجة التي ابتكرها على شاهد قبره الحجري.
قطة شرودنجر شهيرة جدًا في وجدان الغربيين، وقد قدم النظرية عام 1935. يبدو أن نظرية القطة هي رد على تفسير مدرسة كوبنهاجن لميكانيكا الكم. تخيل شرودنجر أننا وضعنا قطة حية في غرفة معدنية ومعها زجاجة فيها سيانيد. هناك عنصر مشع في القفص، لو تحلل هذا العنصر فسوف يؤدي لأن تهوي مطرقة على زجاجة السيانيد وتقتل القطة بالغاز.
يبدو الأمر شبيهًا بفخاخ جيمس بوند الشهيرة، فلربما كان الإصبع الذهبي يضحك الآن في تشف.
مراقب التجربة لا يعرف إن كان العنصر تحلل أم لا، وهل ماتت القطة أم لا. نحن لا نعرف. لهذا القطة ميتة وحية في نفس الوقت. هذا هو مبدأ التراكب superposition المعروف في ميكانيكا الكم. هنا حالة شك لن تزول إلا بفتح الصندوق لنرى إن كانت القطة حية أو ميتة. لا توجد نتيجة للتجربة ما لم تتم ملاحظتها.
والمشكلة هي أن فتح الصندوق تدخل سافر في التجربة. يطلقون على هذا مصطلح (تناقض الملاحظ).
مبدأ التراكب يتحقق فعلاً تحت مستوى الذرة. يمكنك أن تجد الفوتون في عدة أماكن في نفس الوقت.
هل تفهم؟. موضوع معقد جدًا، وقد قال شرودنجر نفسه إنه يتمنى لو لم ير هذه القطة اللعينة قط!
أينشتاين راقت له التجربة وكتب يهنئ شرودنجر ويقول له: إنه العالم الوحيد الذي استطاع ان يبرهن على أن الحقيقة نسبية وخطرة جدًا. ليس هذا كلامًا فارغًا أو تسلية مدمنين. تذكر أن ميكانيكا الكم علم مهم، وهو من العوامل التي تجعل الغرب في مقدمة الركب بينما نحن نتعثر في المؤخرة.
عندما تطبق نظرية شرودنجر على نطاق واسع فإنك تفهم فيلم (السيد لا أحد) بشكل أفضل. كل المسارات صحيحة وحدثت. نيمو عاش مع أبيه ومع أمه وتزوج الفتيات الثلاث وهو بطل قصة الخيال العلمي التي رأيناها، لكننا لا نعرف حقًا أي قصة هي الصحيحة إلا من المكان الذي يقف فيه الملاحظ.
هذه هي نظرية (العوالم العديدة). القطة حية وميتة معًا لكن كل واحدة في كون آخر لا تعرف شيئًا عن الأخرى ولا يوجد اتصال بينهما.
ربما أنا اخترت فصلاً آخر في المدرسة الابتدائية وعرفت أصدقاء آخرين: مصطفى وغادة ورامي. وصارت لي شخصية مختلفة، وكلانا نعيش في العالم لكننا لا نعرف بعضنا. فقط أنا أحكم على رؤيتي أنا حسب الجهة التي أقف عندها من التجربة.
الحياة حشد من الاختيارات الطفيفة في كل مرة، لكن كل اختيار يقودك لمنعطف جديد. في النهاية تقف عند الجانب الآخر من المدينة وتتساءل: أين كنت ستكون لو اخترت أشياء أخرى؟.الفكرة التي تصدع الرأس أن يكون هؤلاء جميعًا موجودين في أطراف المدينة الأخرى لكنك لا تعرف عنهم شيئًا ولا تعرف كيف تجدهم!
.
#روائع_المقالات
(من كتاب - شربة الحاج داوود)
نشر في 12 تشرين الثاني 2017
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع