1516 مشاهدة
0
0
كانت رحلته إلى الصعيد طويلة، وهو يقطعها بسيارته للمرة الأولى في كل مرة كان يستقل القطار وكان هذا مريحاً عملياً وسريعاً ولكنه في هذه المرة، وبمقتضى عمله، مضطر إلى التوقف في عدة مدن، في طريقه إلى مدينة (قنا)
التقط (سمير) نفسًا عميقًا، وهو ينطلق بسيارته فى هذا الطريق الجديد..كانت رحلته إلى الصعيد طويلة، وهو يقطعها بسيارته للمرة الأولى..
في كل مرة كان يستقل القطار..
وكان هذا مريحًا..
عمليًا..
وسريعًا..
ولكنه في هذه المرة، وبمقتضى عمله، مضطر إلى التوقف في عدة مدن، في طريقه إلى مدينة (قنا)..
رحلة طويلة..
مرهقة..
وبطيئة..
ولقد كانت الشمس في منتصف السماء، عندما بدأ رحلته إلى تلك المدينة الصغيرة، التابعة لمحافظة (أسيوط)..
الخريطة التي يحملها لم تكن توضح موقع تلك المدينة..
وكان هذا يوحي بأنها مدينة صغيرة..
أو ليست ذات قيمة..
ولهذا لم يكن لديه سوى أن يسأل..
في البداية لم يجد من سمع حتى عن تلك المدينة..
ثم أخيرًا، التقى ذلك الشيخ..
شيخ هادئ ووقور، له لحية مميزة، اختلط شيبها بسوادها، ووجه هادئ مريح، باسم الثغر، يرتدي جلبابًا أخضر زرعي اللون، ويتكئ على عصا ذات مقبض من العاج..
ذلك الشيخ وحده، يعرف تلك المدينة الصغيرة، فور سماعه اسمها..
وبكلمات بسيطة، شرح له كيف يتخذ طريقه إليها..
وشعر (سمير) بالارتياح..
وانطلق في ذلك الطريق، الذي وصفه الشيخ..
كان طريقًا طويلًا مستقيمًا، بدا خاليًا، ثم سرعان ما صار يمضي وسط مزروعات، تنقل إلى أنفه رائحة جميلة نقية..
وأغمض (سمير) عينيه في استمتاع، وهو ينطلق في هذا الطريق..
وينطلق..
وينطلق..
وينطلق..
ولكن الطريق بدا وكأنه لا ينتهي..
الشمس قطعت رحلتها عبر السماء، وبدأت تنحني نحو المغيب، والطريق لا ينتهي، ولا يتغير..
نفس الحقول..
ونفس المشهد..
ونفس الرائحة..
وبدأ (سمير) يشعر بالقلق والتوتر..
وبالخوف أيضا..
فالطريق الذي بدا جميلا في ضوء النهار، بدا مخيفًا مع غروب الشمس..
خصوصًا أنه يمتد..
ويمتد..
ويمتد..
ولا ينتهي أبدًا..
و..
فجأة، بدا ذلك المنزل القديم..
انتهى الطريق دون مقدمات، إلى ساحة كبيرة، بها بركة مياة واسعة، في أطرافها ذلك المنزل القديم..
ومما أثلج صدر (سمير)، أن الضوء كان يشع من نوافذ ذلك المنزل القديم..
وهذا يعني أنه هناك من يحيا فيه..
وأن الطريق قد بلغ نهايته..
أو نهاية امتداده الممل على الأقل..
ودون تفكير، اتجه (سمير) نحو ذلك المنزل القديم، وأوقف سيارته أمامه، وهبط يطرق باب المنزل..
مضت ثوانٍ ثقيلة، قبل أن يسمع وقع أقدام تقترب، ثم انفتح الباب، وبدا على عتبته رجل وقور، استقبله بابتسامة ودودة، وهو يقول:
ـ أهلا بك يا بني.. هل ضللت طريقك؟!
أجابه (سمير) بكل انفعاله:
– كان المفترض أن يقودني هذا الطريق إلى مدينة (توملا)، ولكنني أقود سيارتي منذ أربع ساعات، ولم أصل إليها بعد.
حافظ الرجل على ابتسامته، وهو يقول:
– لا بأس.. الكثيرون تصيبهم الحيرة، في المواقف المشابهة.
لم يفهم (سمير) ما يعنيه الرجل، ولكنه لم يقضِ وقتا في محاولة التفسير، وهو يسأله:
– هل يمكنك أن ترشدني إلى (توملا) هذه؟!
اتسعت ابتسامة الرجل، وهو يقول:
– الوقت متأخر، وستحتاج إلى الراحة، قبل أن تصل إلى هدفك.. تعال.. سأستضيفك في قصري.
قصره؟!
يا له من وصف ساخر!
هذا المنزل المتهالك، يطلق عليه اسم القصر؟!
قصره؟!
ابتسم دون أن يعترض، وغمغم:
ـ أظن أنه ليس أمامي سوى قبول دعوتك الكريمة..
فتح له الرجل الباب على اتساعه، وهو يقول:
ـ ستجد الطعام ساخنًا على المائدة.
اندهش (سمير) من قوله..
واندهش أكثر، عندما نظر إلى المائدة، فوجدها معدّة لاستقبال شخصين، وكأن الرجل كان ينتظر وجوده..
وكان الطعام ساخنًا بالفعل..
والأهم.. أنه كان مكوّنا من أصنافه المفضلة في الطعام..
وعلى الرغم من غرابة الموقف، فقد التهم (سمير) طعامه في شهية كبيرة، والرجل يراقبه بنفس الابتسامة، التي بدت أشبه بذلك الطريق..
لا تتغير أبدا..
وبعد العشاء، قاده الرجل إلى حجرة في الطابق الثاني، جيدة التأثيث، وإن كان أثاثها قديم الطراز، وأشار الرجل إلى الحجرة، وهو يقول:
ـ هذه أفضل حجرات القصر.
لم يستطع (سمير) منع ابتسامة ساخرة، ارتسمت على شفتيه، فتطلع إليه الرجل لحظة، وقال:
ـ أنت تراه كمنزل قديم.. أليس كذلك؟!
ابتسم (سمير) ابتسامة واسعة، دون أن يجيب، فهز الرجل الوقور رأسه، وقال في رصانة:
ـ عندما يحين الموعد، ستراه قصرا.
مرة أخرى، لم يفهم (سمير) ما يعنيه هذا..
ومرة أخرى، تجاهل الأمر كله..
وفي حجرته، حاول أن ينام..
حاول..
وحاول..
وحاول..
وفشل..
ومع الأرق الذي أصابه، نهض إلى النافذة، يتطلع عبرها إلى تلك البركة الواسعة، التي انعكس على مياهها ضوء القمر، و..
وانتفض جسده كله في عنف..
فمياة البركة، عكست صورة ذلك المنزل أيضا..
ولكنه في انعكاس صورته على الماء، لم يكن منزلا قديما..
بل كان قصرا..
قصرا منيفا، ذكّره بالعصور الوسطى..
أو على نحو أوضح، بأفلام الرسوم المتحركة لـ (والت ديزني)..
لم يصدق (سمير) عينيه في البداية..
لم يصدقهما، فأغلقهما وفتحهما مرة..
واثنتان..
وثلاث..
ولكن الانعكاس ظل كما هو..
ظل قصرًا..
هز (سمير) رأسه في قوة، وهو يتساءل..
أهذا حلم؟!
هل نام دون أن يدري، ويحلم الآن بما يراه؟!
هل؟!
عض شفته السفلى في قوة، فشعر بألم حقيقي..
ألم يقول: إنه ليس حلمًا..
إنه يعيش حقيقة..
ويرى انعكاسًا حقيقيًا..
وبكل عصبيته وانفعاله، اندفع خارج الحجرة، وراح يهبط السلالم في سرعة وتوتر، ودفع باب المنزل، ليلقي نظرة عن قرب..
ولم يعد هناك من شك..
كيف تراه؟!
انتفض جسده كله، في عنف شديد، عندما انبعث السؤال من خلفه، والتفت في حركة حادة إلى ذلك الوقور، الذي أشار إلى الانعكاس، مضيفا:
ـ هل تراه قصرا، أم مجرد منزل قديم?!
صاح به في عصبية:
ـ كيف تصنع هذه الخدعة?!
ابتسم الوقور، وهو يقول:
ـ ليست خدعة.
صاح (سمير) :
ـ ولكن هذا مستحيل! المبنى أمامي مجرد منزل قديم، فكيف يكون انعكاسه قصرا؟!
أشار إليه الوقور، قائلا:
ـ عندما تصل إلى ما ينبغي أن تصل إليه، ستراه قصرا..
صرخ فيه:
ـ ما الذي تعنيه بهذا، الذي تكرره كثيرا ؟
لم يجب الوقور، وإنما أشار إلى سيارة (سمير)، الذي التفت إليها، قبل أن تتسع عيناه في ذعر، ويصرخ:
ـ ماذا فعلت بسيارتي?!
فالسيارة كانت مهشمة، محطمة المقدمة، وكأنها قد ارتطمت بجسم ضخم قوي..
وفي هدوء، أجاب الوقور:
ـ ألا تذكر?!
لم يكد يقولها، حتى أضاءت ذاكرة (سمير) فجأة..
ينطلق بسيارته في طريق الصعيد..
يقترب من مدينة (أسيوط)..
ثم تظهر سيارة نقل ضخمة..
يحاول الإفلات..
يفقد السيطرة..
ثم الارتطام..
هل تراه الآن قصرا؟!
في هذه المرة لم ينتفض جسده مع السؤال، بل التفت في هدوء إلى الوقور..
بل ولم يندهش حتى عندما لم يجده..
كان الذي يقف خلفه هو ذلك الشيخ، ذو الجلباب الأخضر، واللحية التي اختلط شيبها بسوادها، والذي قاده إلى ذلك الطريق..
كان يبتسم في مودة، وخلفه يرتفع القصر شاهقا مهيبا..
وفي هدوء، قال الشيخ:
ـ هل وصلت الآن إلى هدفك؟!
أجابه (سمير)، وهو يشعر بارتياح عجيب:
ـ مدينة (توملا).. عكس حروف كلمة (الموت).. انعكاس آخر.
اتسعت ابتسامة الشيخ، وهو يقول:
– أهلا بك.
وفي هدوء عجيب، خطا (سمير) معه إلى داخل القصر، الذي لم يعد انعكاسا..
قصر الموت..
محطته..
الأخيرة.
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
نشر في 05 كانون الثاني 2019