941 مشاهدة
0
0
لست أدري ماذا أفعل صديقتي العزيزة تركتني، وخاصمتني، وترفض التحدث إلىّ بكلمة واحدة كلمة واحدة، هي كل ما أنشده منها كلمة سماح وغفران
لست أدري ماذا أفعل ..صديقتي العزيزة تركتني، وخاصمتني، وترفض التحدث إلىّ بكلمة واحدة ..
كلمة واحدة، هي كل ما أنشده منها ..
كلمة سماح..
وغفران ..
ولن أحاول أن أتظاهر بالبراءة، أو أدعي حتى إنني كنت على حق، فأنا نفسي لم أعد واثقة من هذا بعد الآن ..
لم أعد واثقة من أي شيء ..
وفي صباح كل يوم، وبعد أن أحاول عبثًا الاتصال بها، أجل صامتة، في شرفة منزلي الصغير، وأسترجع سبب ذلك الخلاف والخصام ..
ولم يدهشني ويؤلمني الآن، أن أدرك أن سر المشكلة كلها يكمن في ستة أسطرها كتبتها في لحظة غضب ..
ستة أسطر لا غير ..
ولكي تفهموا الأمر، دعوني أبدأ من مرحلة مبكرة ..
منذ عرفت صديقتي لأول مرة ..
كانت تعمل في وظيفة جيدة، في شركة كبيرة، تعد مطمحًا لكل خريج جديد، عندما قدمت أنا طلبًا للتعيين فيها ..
الذي اعتدناه في تلك الفترة، هو أن العاملين في الشركات الكبري، يحاولون دومًا وضع عقبات وعثرات في طريق أي متقدم جديد، لشغل وظيفة شاغرة ..
ربما لأنهم يخشون المنافسة، أو لأنهم يميلون إلى الاستيثار بكل الامتيازات، التي يمنحهم إياها العمل ..
ولكن تلك الصديقة كانت تختلف ..
فما أن احتبرتني، وأدركت أنني كفء للوظيفة، حتى آزرتني، ووقفت إلى جواري، وكتبت بنفسها تقريرًا رائعًا، لتؤيد حصولي على الوظيفة، التي أحلم بها منذ فترة طويلة ..
وحصلت بالفعل على الوظيفة ..
وشعرت بامتنان شديد تجاهها، جعلني أرتبط بها لبعض الوقت، كما لو أنها شقيقة كبرى، وظلت هي تعاملني من هذا المنطلق..
وربما حتى أيام قليلة..
ودعوني أعترف هنا، أن تفوقي في وظيفتي الجديدة ـ واعترف الكل بهذا ـ قد ولد في نفسي شعورًا عجيبًا، بدأ برغبة عارمة في التنافس معها، وإثبات أنني الأفضل، والأكثر براعة وذكاءً، ثم لم يلبث/ مع استمرار نجاحها ، وعلاقتها الحسنة بالجميع، أن تحوَّل إلى غيرة غاضبة وإحساس مرضي، بأنني أفضل منها بالفعل، ولكنهم لا يدركون ..
ولأن مشاعري تجاهها قد اتخذت منحنى شديد الحساسية، أصبحت لا أختمل أي نقد توجهه إلىَّ، وأتصور دومًا أنها تبادلني عداءً بعداء، على الرغم من أنها لم تبد لمحة واحدة من هذا ..
ولكن تبًا لمشاعر الغضب، التي تدفعك دومًا إلى إساءة تفسير كل موقف أو قول، يصدر عمن بغضبك..
فصديقتي على الرغم من دماثة خلقها، شديدة الصرامة والحزم في العمل، وترفض الاستهتار والتهاون أيًا كانت أسبابهما، حتى إنها ذات يوم، فوجئت بأن المكتب قد تحول إلى نقطة لقاء، يجتمع فيها الكل، ليتسامروا وتضاحكوا، دون الانتباه إلى ما يسببه هذا من خلل، في مسار العمل ككل ..
لذا، ولكل صرامة، رفضت هي هذا، وطلبت من الكل إنهاء هذا العبث، ومنعتهم من الحضور إلى المكان، إلا بدواعي العمل ..
وتصادفت أن كنت مدعوة إلى ذلك الاجتماع، في نفس اليوم، الذي أصرت هي فيه على فضه، فتعاظم الأمر في نفسي، وصوَّر لي غضبي أن قرارها موجه إليَّ شخصيًا، وليس للمبدأ نفسه، فتضاعف غضبي منها وحنقي عليها ألف مرة ..
وهكذا مضت الأيام والأحداث، وأنا أرصد كل حركة وكل كلمة، وكل موقف، وأتعامل معها هي بالذات بحساسية فائقة، وروح عدوانية، ليس لها ما يبررها ..
حتى جاءت الفرصة المناسبة، لتوجيه صفعة قاسية لها..
فلسبب ما، ثار خلاف عنيف، بينها وبين صاحب ومدير الشركة، وراح يتزايد بسرعة، لعنادها وعناده ..
وهنا، تجمع كل الغضب والمقت في أعماقي، وأثمر عن نشرة صغيرة، طبعتها بنفسي، وعلقتها في لوحة إعلانات الشركة ..
نشرة من ستة أسطر فحسب..
ستة أسطر، قلت فيها إنني ابنة الشركة البارة، وإنه لا كيان لي خارجها، وإنني لن أختلف معها أبدًا، بعكس ما فعله الآخرون، الجاحدون للجميل ..
لم أكتب اسمها صراحة، إلا أن كل من قرأ المنشور، الذي حمل توقيعي، أدرك أنني أعنيها هي بالتحديد ..
وكم كانت دهشتها عندئذ!
لقد بدت أشبه بالمصدومة، وهي تتساءل: لماذا فعلت هذا، على الرقم من أن الخلاف بينها وبين المدير لا يمسني شخصيًا، بأي حالٍ من الأحوال ..
العديدون أيضًا تساءلوا في حيرة عن الأمر نفسه، وآخرون رأوا أنني على حق، وانقسم موظفو الشركة، بين مؤيد لما فعلته، وغاضب منه ..
وكان من الطبيعي أن يسألها البعض عن رأيها ..
ولكنني كنت شديدة التحفز..
غضبي ومقتي أعمياني عن حقيقة واضحة، ألا وهي أنني أنا التي أطلقت الرصاصة الأولى ..
ولكنني لم أكن أريد منها حتى حق الدفاع ..
كل كلمة قالتها/ ردًا على رصاصتي الأولى، اعتبرتها أنا سبًا وقذفًا في حقي، وفرصة لإشعال النيران أكثر وأكثر ..
وأبدًا لم أحاول الاعتراف بأنني أشعلت معركة، وأن كل معركة تطلق القذائف فيها في الاتجاهين، وليس في اتجاه الخصم فقط ..
ومع مرور الوقت، راحت نقمتي تفصح عن نفسها أكثر، وتحول لوح إعلانات الشركة إلى ساحة قتال، اتهمتها فيها بانعدام المصداقية، وشككت في كل ما فعلته أو قالته..
بل وحاولت أن أظهرها أمام الآخرين بصورة حقيرة، لا تستحق سوى الازدراء والرفض..
وتماديت..
وتماديت..
وتماديت ..
ثم قررت هي إنهاء معركتها معي، بأي ثمن كان ..
وفي لوحة الإعلانات، ولأول مرة، كتبت في مذكرة، تفسر فيها موقفها ..
وأثارني هذا أكثر وأكثر، وعدت أهاجمها، قائلة: إن هجومها عليَّ غير منطقي؛ لأن كل ما كتبته عنها كان ستة أسطر فحسب..
ولم تجب هي على قولي هذا ..
وعن لسانها، وصلتني رسالة شفهية، تقول: إن العبرة ليست في عدد الأسطر أو كمياتها، فالسباب كلمة واحدة، ولكنها قد تؤذي مشاعر المرء بأكثر مما يفعل مقال كامل ..
العبرة إذن بمن بدأ الحرب ..
ولماذا؟!
كان هذا آخر ما وصلني منها، وآخر لقاء لي معها، قبل أن تنصلح الأحوال، بينها وبين المدير، ويعود كل شيء إلى مجراه ..
وأعترف أن هذا قد أغضبني في البداية؛ لأنها ستستعيد مكانتها وستفقدني المبرر القتالي الوحيد ..
ثم إن ما يقلقني هو/ كيف سألتقي بها بعد هذا؟!
كيف سنعمل في مكتب واحد، بعد أن أفصحت عن مقتي وكراهيتي وغضبي على هذا النحو؟!
إنها لن توجِّه إليَّ عتابًا واحدًا؛ لأنها لم تعتد أن تفعل/ ولكنني واثقة من أن الصداقة لن تعود أبدًا ..
هذا لأن الصداقة ترتبط دومًا بالاحترام ..
وأطنني فقدت الاثنين في نظرها ..
فماذا افعل؟!
أخبروني بالله عليكم.
___
(سلسلة كوكتيل 2000 ـ العدد رقم 42 ـ الغامض)
نشر في 29 آذار 2016