1782 مشاهدة
0
0
النقطة الأولى التى يرددونها بلا توقف هى أننا نكرم الموتى أكثر من اللازم، وأنه يكفى أى واحد أن يموت ليصير ملاكاً نبيلاً
النقطة الأولى التى يرددونها بلا توقف هى أننا نكرم الموتى أكثر من اللازم، وأنه يكفى أى واحد أن يموت ليصير ملاكا نبيلا، كان ينثر الأزهار من حوله ويزفر المسك والعنبر. هذا صحيح إلى حد ما، لكن الرد على ذلك يأتى فى عبارة واحدة: الموت يجيد الانتقاء فعلا.. الموت يعرف كيف يختار ضحاياه. لهذا من النادر فعلا أن يموت أحد الأوغاد وأنت حى. لا بد أن يتمتع بصحة ممتازة ويجثم على روحك إلى أن تموت أنت. الموت ينتقى الفرسان، ويختار ضحاياه من بين كتيبة الشرفاء.. أين ذهب المسيرى والعم خيرى شلبى وصلاح جاهين واللباد وآخرون فروا من ذاكرتى فى هذه اللحظة بالذات؟ ولنفس الأسباب أحاول أن أتذكر عيوب حمدى مصطفى فلا أستطيع.. هذه حالة أخرى من الحالات التى يمارس الموت فيها هواية الانتقاء، وذوقه راق وعال جدا كالعادة. النقطة الثانية هى أننى عجزت عن كتابة حرف عندما توفى أبى. تصور!.. لم أكتب حرفا عن وفاة أبى رغم أننى لم أكف عن الثرثرة منذ تعلمت الكلام حتى هذه اللحظة.. السبب طبعا هو أنه كلما كبُرت الكارثة صار من العسير -وربما من المبتذل- أن تصبغها بالحبر وتضعها على الورق، وكما قال تشيكوف: «أعظم الخطب وأبلغها تلك التى تقال عند قبور الموتى، ليس لها أدنى تأثير على اليتامى والأرامل وأهل الفقيد الأصليين الذين يفضلون الصمت» لهذا أجد من الصعب جدا أن أكتب عن حمدى مصطفى. ما سأفعله ببساطة هو أن أخبرك من هو…لو كنتَ شابا فأنت تعرف الاسم جيدا.. الرجل الذى استطاع أن يوجد مجموعة من سلاسل الجيب التى يقرؤها شباب العالم العربى فى كل صوب. وبشكل ما هو موجود فى خلفية الشباب الذين قاموا بثورة يناير.. فهم كانوا يستندون إلى تراث ثقافى معين، لعب فيه الرجل دورا كبيرا. لا يوجد مراهق لم يبدأ حياته مع هذه الكتيبات ثم يستمر فى قراءتها إلى أن يجد كتبا أخرى أو يتوقف نهائيا.. ولو كنت قد سمعت عن كتاب سلاح التلميذ أو المعلم أو رجل المستحيل أو ملف المستقبل أو فلاش.. لو كنت قد سمعت أى حرف عنى فالأستاذ حمدى مصطفى يقف هناك فى الظل، يسيطر على كل شىء ويمسك بكل الخيوط بين أنامله.. يحركها ببراعة واقتدار إلى أن جاء اليوم الذى عجز فيه عن تحريك أنامله بسبب الضمور العصبى الغريب الذى أصابه بسبب علاج خاطئ، وحول ذراعيه إلى عضو بلا نفع، وكانت هناك خادمة صغيرة تضع على أذنه الهاتف المحمول وتطلب له الأرقام التى يريدها وتدس السجائر بين شفتيه.. كانت هذه بداية النهاية.. رجل مثله اعتاد أن يعمل عشرين ساعة يوميا، واعتاد أن يمسك كل التفاصيل، لا يقدر على أن يظل حبيس بيته ثلاثة أعوام.
هذا الناشر الذى اشتهرت إصداراته فى كل العالم العربى من المحيط إلى الخليج كما يقولون، لم يكن مولعا بالظهور بأى شكل ولم يدل إلا بأحاديث صحفية محدودة.
عندما قررت أن علىّ أن أقدّم ما أكتبه للناس أو أصمت نهائيا، قررت أن أتجه فى كتاباتى للشباب. فى ذلك الوقت كان النشر صعبا جدا، وهذا يختلف عن ظروف اليوم، حيث يكتب الأديب كتابه الأول ثم ينشئ دار نشر. قابلت الأستاذ أحمد المقدم، مسؤول التوزيع، فرتب لى لقاء مع حمدى مصطفى ليقرر. وفى ذلك اليوم من شهر فبراير كانت الأمطار تنهمر والبرق يشق عنان السماء، مع ذلك الجو الغائم الذى يعطى انطباعا خادعا بأن الليل قد جاء بينما الوقت عصر، وأنا أمشى وحدى فى المنطقة الصناعية بالعباسية أبحث عمن يدلنى على المؤسسة العربية الحديثة…
لم أتبين حجم الإمبراطورية التى شيدها هذا الرجل الطموح، كما لم أتبين عدد إصداراته ولا تنوعها إلا عندما ذهبت هناك. هناك كان جالسا فى مكتبه يراقب كل شىء من وراء الحاجز الزجاجى كعادته، بتلك النظرة المتعبة نوعا.. النظرة الثاقبة التى تعلمت من طول الخبرة أن تزن من تتعامل معه. وعرفت سر نجاح هذا الرجل.. إنه متغلغل فى كل شىء، ويعى عملية النشر بكل دقائقها، ثم هو يثق فى ذوقه الخاص ثقة عمياء ويؤمن بأن ما يروق له سوف يروق للناس..
وعلى مدى تلك الأعوام رأيته مرارا يمسك بهذه الرزمة من الورق أو تلك يطالعها وقد رفع النظارة على مقدمة رأسه كعادته فى القراءة، والأوراق تحمل توقيع سيد الشماشرجى من تفهنا العزب أو إبراهيم الششماوى من خارصيت، وهو يلقى عليها نظرة خبيرة ويتساءل: ترى هل يصلح للنشر؟
فى ما بعد صرت ضمن الأسرة، عملت فى المطبخ.. وكانت هناك عوامل كثيرة لنشوتى بالانضمام لهذه الأسرة، لكن أهم هذه العوامل كان مقابلة الأستاذ إسماعيل دياب وأن يرسم لى أغلفتى.. إسماعيل دياب الذى كنت أعشق رسومه وأنا طفل بالمدرسة الابتدائية، وانعقدت بينى وبين الرسام العظيم صداقة قوية، عرفت منها أنه قارئ ممتاز وناقد رائع.. وأعتقد أن المودة كانت متبادلة إلى أن توفاه الله..
التاريخ الرسمى يقول إن حمدى مصطفى ولد عام 1928.. تخرج فى كلية التجارة ليعمل مع والده فى دار نشر هى (دار سعد مصر للطباعة والنشر) والتى صارت فى ما بعد (الدار القومية للطباعة والنشر). فى بداية الستينيات انفصل ليؤسس وحده المؤسسة العربية للطباعة والنشر، ويبدأ نشر الكتب الدراسية على مدى 50 سنة…عندما صارت قدمه راسخة كناشر قرر أن يتجه للنشر الأدبى، فهو لم يكف عن اعتبار النشر رسالة.. الكتب الدراسية تحقق الربح، أما الكتب الأدبية فهى رسالته الحقيقية فى الحياة، واختار أن يقدم القصص التى يقرؤها الشباب على شكل روايات مصرية للجيب. كان يعى بالضبط دوره فى توجيه النشء لقيم البطولة وحب الوطن.. وقد اختلفنا أكثر من مرة فى هذه النقطة، لأننى أرى فى هذا نوعا من التلقين المدرسى، لكنه كان يعى حساسية ما يقدمه وحساسية السن التى يخاطبها، لذا كان هناك كثير من المحاذير التى تختلف عن أى نوع آخر من الأدب.
التحق د.نبيل فاروق والأستاذ شريف شوقى بالمؤسسة بعد نجاحهما فى مسابقة أعلنت عنها المؤسسة فى الصحف.. وبعد أعوام انضم للمؤسسة خالد الصفتى ورؤوف وصفى والعبد لله ومحمد سليمان عبد الملك، ومن هؤلاء من اتجه للسينما والتليفزيون بعد ذلك.. كما أنه -حمدى مصطفى- أصدر سلسلة «سلة الروايات» التى تقدم أعمال الشباب فى شكل مسابقة دائمة. هناك عشرات العناوين المهمة، كما أنه أعاد إصدار سلسلة «كتابى» الرائعة لحلمى مراد التى اندثرت أو كادت.
استمر النشر الأدبى على مدى 30 عاما وبيعت هذه الروايات القصيرة من المشرق إلى المغرب.
نالت إصداراته جائزة سوزان مبارك فى أدب الأطفال، كما نالت جائزة أحسن كتب الأطفال من تونس عام 2005.
كما قلت سابقا فقد قضى آخر أعوام من حياته فى المنزل بسبب مضاعفات إصابته نتيجة علاج خاطئ للأعصاب تلقاه فى منتجع سويسرى. وكتبت أنا عن ذلك فى حينها، كما أنه خاض معركة الكتاب الخارجى الشهيرة مع الوزير أحمد زكى بدر. لكنه استمر فى إدارة كل دقائق المؤسسة إلى أن توفاه الله فى 21 سبتمبر 2011، بعدما أسهم فى تكوين شخصية وتفكير جيلين.
ليرحم الله حمدى مصطفى.. لقد فقدْنا رجلا عظيما وفارسا حقيقيا .. وفقدتُّ أنا أبًا روحيا آخر.
نشر في 01 أيلول 2018