686 مشاهدة
0
0
المخدر كان يلتهم وعيه في سرعة، وذلك الوحش الآدمي إلى جواره، يلتقط مشرطه بالفعل، ليبدأ في انتزاع كليته الثانية حاول جاهداً أن يبقي عينيه مفتوحتين، لأنه يدرك أنه لو أغلقهما فسيكون هذا آخر ما يمكن أن يشاهده في الدنيا
فرك (أسامة) كفيه في توتر، وهو يجلس في عيادة طبيب وجرّاح الكلى الشهير، الدكتور (فايز عبد النعيم)، وتعلقت عيناه بتلك الساعة القديمة على الجدار، والتي أشارت عقاربها إلى قرب منتصف الليل، وهو يتساءل في قلق عن سر استدعاء الجراح الشهير له..لقد التقى به مرة واحدة في حياته كلها..
ولم تكن حتى بالمقابلة الجيدة..
كان الجراح الشهير يرأس لجنة إجراءات زراعات الكلى حينذاك..
وكان هو مستعدا للتبرع بإحدى كليتيه لرجل ثري في الخامسة والخمسين من العمر، أصابه فشل كلوي مزمن، منذ أكثر من عامين..
ولقد اضطر ذلك الثري إلى الانتظار لأكثر من عامين، بحثا عن متبرع تتوافق أنسجته معه لإجراء عملية الزرع..
وأخيرا عثر عليه..
كانت نسبة توافق الأنسجة بينهما تزيد عن خمسة وتسعين في المائة، مما يجعله متبرعا مثاليا، من الناحيتين العملية والطبية، ويضمن استقرار الكلى المزروعة، وعملها على نحو أفضل في جسد المضيف..
والفحوصات الطبية جاءت كلها ملائمة تماما..
وبقى أمر واحد، هو أصعب إجراء بالنسبة إلى هذا النوع من العمليات الجراحية..
موافقة لجنة الإجراءات، التي كان يرأسها الدكتور (فايز)..
وما زال حتى هذه اللحظة يذكر ما حدث..
"توافق الأنسجة لا يعنيني".
قالها آنذاك الدكتور (فايز) في غِلظة، فسأله الثري في قلق:
– ولكن الفحوص كلها ممتازة، والمتبرع وافق على إجراء العملية.
مط الدكتور (فايز) شفتيه، وقال في صلف:
– مُقابل كم؟
ما زال (أسامة) يذكر ارتباكه مع السؤال، وكيف أنه انكمش في مقعده، كما لو أنه تلميذ خائب ضبط متلبسا بالكذب، في حين أجاب الثري في قلق:
– وما شأن اللجنة بهذا؟! إنه شخص بالغ وأعطى موافقته كتابة، وها هو ذا بنفسه أمامكم ليؤمن على موافقته.
بدا الدكتور (فايز) شديد الشراسة، وهو يقول:
– سألتك مُقابل كم؟!
أجابه الثري في شيء من الحدة:
– مجانا.. إنه يمنحني كليته تبرعًا لوجه الله سبحانه وتعالى.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه الدكتور (فايز) وهو يقول:
– أتظنني ساذجًا إلى هذا الحد؟!
ازداد (أسامة) انكماشًا في مقعده، في حين التفت الثري إليه يسأله في غضب:
– هل تقاضيت ثمنًا لكليتك يا (أسامة)؟!
هز لحظتها رأسه نفيا، وحلقه الجاف يمنعه من النطق..
كان يخشى أن يعرف رئيس اللجنة أنه قد تقاضى خمسين ألفا من الجنيهات، مقابل قطعة من جسده.
ولكنه ليس الوحيد المستعد لفعل هذا..
مئات الألوف من هذا الشعب الفقير لا يترددون في بيع أعينهم نفسها، في سبيل الفوز بمبلغ كهذا..
هو نفسه، لم يقدم على طرح نفسه كمتبرع بإحدى كليتيه إلا عندما ضاقت به كل السبل، وعمل في أكثر من مهنة، لم يكفِ دخلها لينفق على أسرته الكبيرة، التي يعولها وحده بعد وفاة والده..
ولم يكن يشعر حتى بالارتياح وهو يفعلها..
إنه يبيع قطعة من جسده..
صحيح أنهم أكدوا له أن كليته الثانية ستعوّض الفارق، وأنه لن يشعر قط بغياب الكلية التي سيتبرع بها..
لقد باعها..
باعها من أجل المال..
فقط المال..
"هذا أيضا لن يقنعني".
قالها الدكتور (فايز) بكل صرامة لينتزعه من أفكاره، فازداد انكماشه في مقعده أكثر وأكثر، وهو يخشى أن ترفض اللجنة التصريح بإجراء الجراحة، فتضيع فرصته في الحصول على المبلغ، الذي يمكن أن ينتشله من مأساته..
أما الثري فقد ازداد غضبه وهو يقول في حدة:
– ماذا تريدون بالضبط؟! أن أموت؟! كل الأوراق التي طلبتموها استوفيتها، والمتبرع معي شخصيا ليؤكد موافقته، فماذا تريدون أكثر من هذا؟!
أجابه الدكتور (فايز) في سخرية:
– لا أحد يموت اليوم بفشل كلوي.. وحدات الغسيل الكلوي تملأ البلد، وأنت رجل ثري؛ يمكنك أن تنشئ وحدة غسيل كلوي خاصة في فيلتك.
سأله في حدة:
– ولماذا لا أجري عملية الزرع الكلوي بدلا من كل هذا؟!
زمجر الدكتور (فايز) في شراسة، وهو يقول:
– لأننا لن نجعل فقراء مصر يدفعون صحة الأغنياء.
مال الثري نحوه، يقول في تحدٍ:
– ولكن معلوماتي تؤكد أنكم منحتم الموافقة لثلاثة من الأشقاء العرب الأثرياء أيضا، والذين حصلوا على الكلى من بعض فقراء مصر.
صاح فيه الدكتور (فايز) في حدة:
– هل تتهم اللجنة بالفساد؟ كيف تجرؤ؟!
بدا الثري شديد الصرامة هذه المرة، وهو يقول:
– هل ستوافقون على إجراء الجراحة أم لا؟!
صمت أفراد اللجنة جميعهم، أو أنهم واصلوا صمتهم القلِق، في انتظار رد الدكتور (فايز) الذي أجاب في تحدٍ:
– نريد أن يتبرع أحد أقاربك بالكلية المطلوبة.
قال الثري في تحدٍ مماثل:
– الأوراق التي أمامك تثبت أن أحدا منهم لا تتوافق أنسجته، أو فصيلة دمه معي.
بدا وكأن القول قد راق للدكتور (فايز)، الذي تراجع في مقعده، وهو يقول في غطرسة متحدية:
– في هذه الحالة لا يمكننا القبول.
مضت لحظة من الصمت، تبادل فيها الثري نظرة تحدٍ مع الدكتور (فايز)، قبل أن ينهض في حدة، قائلا:
– لا بأس.. لن أحتاجها.
ثم أشار إلى (أسامة)، قائلا بنفس الحدة:
– هيا بنا.. لن نحتاج إليهم، أو إلى موافقتهم.
هتف بهما الدكتور (فايز) في شراسة وهما ينصرفان:
– حذار أن تجري الجراحة دون موافقة.. القانون يمنعك من هذا.
أجابه الثري في سخرية متحدية وهما ينصرفان:
– هذا يتجاوز حدود سلطاتك.
وما أن صار خارج المكان حتى سأل (أسامة) في اهتمام:
– ألديك جواز سفر؟!
***
"الدكتور (فايز) سيستقبلك، بعد انصراف المريض الحالي".
قالها ممرض الدكتور (فايز)، الذي لا توحي ملامحه أي ارتياح، فانتزع (أسامة) من ذكرياته، ودفعه إلى أن يومئ برأسه في صمت، وهو يتأمل العيادة الخالية من حوله..
لقد أبقاه الجراح الشهير حتى نهاية عمل العيادة لسبب ما..
والسؤال هو لماذا؟!
لماذا؟!
انتهى المريض الأخير من الكشف الطبي وانصرف تاركا العيادة خالية، وجاء الممرض يخبره أن الجراح الشهير سيلتقي به الآن، فالتقط نفسا عميقا، وحاول تعديل هندامه البسيط قبل أن يدخل لمقابلته وهو يرتجف في أعماقه..
ولكن العجيب أن الجراح استقبله بابتسامة كبيرة، وهو يصافحه في حرارة قائلا:
– (أسامة).. كيف حالك يا رجل؟ تبدو مختلفا كثيرا عن آخر مرة رأيتك فيها.
غمغم والقلق ما زال يملأ نفسه:
– الزمن كفيل بتغيير كل شيء.
أشار إليه الدكتور (فايز) بالجلوس وهو يسأله:
– لقد أجريت تلك الجراحة.. أليس كذلك؟!
أومأ برأسه إيجابا وهو يقول في خفوت:
– بلى.. أجريتها في الصين.
وعلى عكس ما توقعه، أطلق الدكتور (فايز) ضحكة، وهو يقول:
– كنت أتوقع هذا، فهم لا يلتزمون بأي قوانين هناك.
وافقه بإيماءة من رأسه، دون أن يعي شيئا عما يقال، فعاد الدكتور (فايز) يسأله في اهتمام:
– وماذا كان المقابل؟
بدا قلقا من السؤال، فضحك الدكتور (فايز) مرة أخرى وهو يقول:
– لا تقلق.. إنه ليس سؤالا استدراجيا.. إنه الفضول فحسب.
دخل الممرض في هذه اللحظة، ليضع أمامه كوبا من العصير، فأشار الدكتور (فايز) إلى الكوب قائلا:
– اشرب العصير أولًا لتهدأ، ولا تُجب إن لم ترِد هذا.
التقط كوب العصير وشرب نصفه دفعة واحدة، مع جفاف حلقه وتوتره، وعندما خفض الكوب، كان الدكتور (فايز) يتطلع إليه في اهتمام، فغمغم متوترا:
– كنا قد اتفقنا على خمسين ألف جنيه، ولكن بعد نجاح العملية أضافت إليها زوجته عشرة أخرى.
أشار الدكتور (فايز) إلى كوب العصير مرة أخرى وهو يقول:
– وهل كان هذا كافيا؟
التقط الكوب ليشرب ما تبقى فيه، قبل أن يجيب:
– لقد اشتريت محلا صغيرا في الحارة التي أقيم فيها، وزودته بالبضائع، وهو ينفق على الأسرة كلها الآن.
بدا شيء من الارتياح على وجه الدكتور (فايز)، وهو يقول:
– إذن فقد صارت أحوال الأسرة مستقرة الآن؟!
أومأ برأسه إيجابا، وارتسمت على شفتيه - على الرغم منه - ابتسامة صغيرة، انتقلت إلى شفتي الدكتور (فايز) الذي قال في بطء:
– التضحية إذن كانت مجدية.
وافقه أسامة بإيماءة من رأسه، وهو يغمغم:
– الحياة كلها تضحيات.
بدا وكأن كلماته قد مست شيئا في نفس الدكتور (فايز)، فقد بدا شاردا وهو يكررها في بطء:
– نعم.. الحياة كلها تضحيات.
تساءل لحظة، لماذا يتحدث الدكتور (فايز) بهذا البطء، ثم انتبه فجأة إلى أنه هو نفسه يتحدث ببطء لم يعتده..
أو أنه يشعر بهذا على الأقل..
وليس هذا وحده ما يشعر به..
لقد تثاقلت أطرافه، وعجز جفناه على البقاء في موضعهما، فانهدلا على عينيه، وهو يقول في صعوبة:
– أشعر بـ..
لم يستطع إتمام الكلمة، ودار رأسه على نحو غير طبيعي، ولاحظ أن الدكتور (فايز) يتطلع إليه في اهتمام شديد، فغمغم:
– لماذا؟!
ثم أطبق الظلام عليه دفعة واحدة..
لم يدر كم ظل يحيط بعقله، ولكنه استعاد شيئا من وعيه، ليرى الدكتور (فايز) واقفًا إلى جواره، مرتديا زي العمليات الجراحية، وممسكا بمحقن في يده..
ولاحظ أنه راقد على ما يشبه مائدة عمليات جراحية، فأدار رأسه في صعوبة، ليجد شابا يرقد على مائدة مشابهة إلى جواره، ومن الواضح أنه في حالة تخدير كامل، وممرض الدكتور (فايز) يقوم بعمل شيء ما بالقرب منه، في حين سمع الدكتور (فايز) نفسه يقول بلهجته الصارمة القاسية التي يذكرها:
– لقد استعدت وعيك قبل الأوان، ولكن هذا العقار سيعيدك إلى حالة التخدير الكامل..
شعر به يحقنه بالعقار، فكرر الكلمة نفسها في صعوبة:
– لماذا؟!
بدا الدكتور (فايز) أكثر قسوة وصرامة، وهو يقول:
– الذي يرقد على مائدة الجراحة المجاورة هو ابني الوحيد، ولقد أصابه فشل كلوي كامل منذ أكثر من عام، أرهقه خلاله الغسيل الكلوي المستمر، وكاد يقضي على مستقبله.. ومشكلته أن خلاياه لم تتوافق إلا مع شخص واحد عثرت على بياناته على شبكة معلومات المتبرعين.
وصمت لحظة، قبل أن يضيف بمنتهى القسوة:
– أنت.
كان المخدر يؤتي ثماره في سرعة، مما منعه أن يصرخ بأنه قد منح إحدى كليتيه بالفعل، ولو منح الثانية فسيعني هذا موته..
ولكنه لم يحتج إلى طرح السؤال، فقد تابع الدكتور (فايز) في صرامة وعصبية:
– أعلم أنه لم يتبق لديك سوى كلية واحدة، وهو يحتاج إليها، فماذا تفعل لو كنت مكاني؟! هل كنت ستختار مستقبل ابنك، أم حياة شخص لم يبالِ ببيع قطعة من جسده في مقابل المال؟!
حاول أن يصرخ..
أن يقول: إنه في النهاية إنسان..
حياة..
مستقبل..
ولكن المخدر كان يلتهم وعيه في سرعة، وذلك الوحش الآدمي إلى جواره، يلتقط مشرطه بالفعل، ليبدأ في انتزاع كليته الثانية..
حاول جاهدا أن يبقي عينيه مفتوحتين، لأنه يدرك أنه لو أغلقهما فسيكون هذا آخر ما يمكن أن يشاهده في الدنيا..
ولكن هيهات..
لقد اتخذ الوحش الآدمي القرار..
والدنيا من حوله تظلم..
وتظلم..
وتظلم.
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
نشر في 19 آذار 2019