Facebook Pixel
كائنات مهددة بالانقراض
1189 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

الزمن يتطور قد نتحمل رحيل مكوجي الرجل وصانع الطرابيش؛ لكن هناك أنماط من البشر يؤلمني بشدة أن نفقدها، والأقسى من هذا أن تقابل شبابًا لم يلقوا هذه النماذج قط

الحياة تزداد تعقيدًا بلا شك.. في بعض النقاط صارت أسهل بكثير؛ فقد كان من المستحيل في السبعينيات أن تتخيل -حتى لو كنت “جول فيرن” نفسه- أن تحمل هاتفك الخاص في جيبك وتطلب به أي شخص في بلدك أو حتى في ألاسكا. كان الاتصال بالقاهرة أو الإسكندرية أو شبين الكوم يعني أن تذهب للسنترال في ساعة مبكرة من اليوم، وتمضي أربع ساعات تنتظر في توتر؛ بينما الصوت الهادر الحكومي يدوي من آن لآخر عبر مكبر الصوت:
ـ”4543 مصر.. كابينة 8″
فترى أحد الجالسين يهرع كالملسوع نحو كابينة 8 ويغلقها عليه ويبدأ في الصياح؛ بينما كل الجالسين يسمعون تفاصيل ما يقال.. عشر ثوان ثم تنقطع المكالمة فيخرج خائب الأمل ليجلس بانتظار محاولة ثانية.. باختصار كان الاتصال بالقاهرة، يعني أن تأخذ يوم إجازة من العمل، وأن تمضي خمس أو ست ساعات في مكان واحد.
أنت تعرف القصص من هذا الطراز، وتعرف كذلك عبارة الشيوخ المعتادة: كانت الحياة أبسط وأمتع برغم كل شيء، كنا نعرف كيف نستمتع.. على كل حال يسهل أن تلاحظ هذا مع الأطفال؛ اليوم يملك الطفل تلفزيونًا يرى فيه عشرات القنوات، وفي بيته كمبيوتر، ولديه جهاز بلاي ستيشن؛ لكنه بالتأكيد ليس سعيدًا بالقدر المفترض أو بالمقارنة بأطفال جيلي، الذين كانوا يقصون الطائرات من ورق الكراريس، ويتيه الواحد منهم فخرًا ببندقية تقذف قطعة من الفلين.. لا أعتقد أن أولادي أحبوا أية لعبة غالية الثمن مثلما أحببت أنا الجمل المحشو بالقش الذي ابتاعه أبي لي من جوار السيد البدوي.
عندما كنت أذهب للمدرسة كنت أرى الهداهد في الحديقة المجاورة للبيت.. هل ما زالت هناك هداهد في العالم؟.. هل انقرضت؟.. أشياء كثيرة انقرضت من العالم للأبد، ومنها قوس القزح الذي رأيته مرارًا في طفولتي، وأمطار أكتوبر.. دائمًا ما كانت الأمطار تنهمر مدرارًا في أول أسبوع لنا في المدرسة، فأين ذهبت أمطار أكتوبر؟.. ولماذا ظللت ألبس القميص قصير الكمين حتى شهر ديسمبر من العام الماضي؟
الآن ينتابني الذعر على كائنات أخرى مهددة بالانقراض، يجب أن تسجلها المنظمات الدولية باعتبارها Endangered species وتنشئ لها صندوقًا خاصًا عليه شعار آخر غير شعار الباندا إياه. خذ عندك مثلاً:
- بائع الدوم والحرنكش والنبق، العجوز الطيب، الذي يدفع عربته أمام المدارس. يعرف بدقة تامة موعد الانصراف من كل مدرسة. يقف هنا حتى يبيع القليل ثم يهرع بعربته نحو مدرسة أخرى جاء وقت فتح بابها -فشلت في العثور على مراهق يعرف معنى (النبق) على فكرة.
- بائعة البيض العجوز التي تمرّ على بيتنا يوم الجمعة، وتجلس على السلم وتتفاوض مع أمي التي تُعدّ لها كوب الشاي، وتدور مباحثات معقدة طويلة جدًا تستمرّ ساعتين تقريبًا.. كل هذا من أجل عشرين بيضة.. بيض صغير الحجم كأنه بيض ثعابين يستحيل أن تراه اليوم. في المرة الأخيرة كانت منهكة جدًا مريضة جدًا، وطلبت من أمي أن تُعدّ لها شايًا باللبن، وتذوّب فيه ملعقة من السمن البلدي لتغذيها!.. إلى أن فهمنا كيف تتحمل شرب الشاي بالسمن كنا قد عرفنا أنها توفيت. لا بد أن هناك أخريات حيات يجب الحفاظ عليهن.

- جيل الأمهات والخالات والجارات اللاتي يعرفن كل شيء.. يعرفن كيف يذوّبن السمن لإعداد تلك المادة الملحية الشهية (المورتة)، وتقدر الواحدة منهن على ذبح وتنظيف خمس دجاجات أو تنقية خمسة كيلوجرامات من الأرز، أو تنظيف كيلوجرامين من السمك، كل هذا في ساعتين لا أكثر، يطلب زوجها وجبة من الفِشّة واللسان ولحم الرأس؛ فلا تجد مشكلة. تعرف جيدًا من أين تبتاع هذه الأشياء وكيف يتمّ طهوها.

الكحول الأحمر مشكلة حقيقية؛ لأنني لا أعرف أي شخص يعرف أين يُباع، ومن دون كحول أحمر ينقرض ذلك الاختراع الجميل المدعو (سبرتاية) الذي يصنع أروع قهوة شممتها في حياتك -طبعًا محاولة ملء السبرتاية بالبنزين هو الطريقة الأقصر لصنع قنبلة “مولوتوف”- لكنهن يعرفن أين توجد “السرجة”.. هذا المكان الغامض الذي يبيعون فيه الطحينة والزيت الحار والكحول الأحمر. عندما يذهبن للسرجة يقمن كذلك بتحويج البُنّ.. هؤلاء النسوة وقودهن في الحياة هو القهوة.. وبالطبع تقود القهوة لفنّ جميل آخر موشك على الانقراض هو قراءة الفنجان.
هؤلاء النسوة يعرفن بالضبط ما يجب عمله بقطعة اللحم الحمراء الغضة الباكية التي خرجت لتوها من بطن الأم، ولماذا يجب تسخين الماء وقت الولادة.. يعرفن ما يجب عمله للمشيمة، ويعرفن كيف يحسبن موعد السبوع.
وفيما يتعلق بالموت هن خبيرات في حساب يوم الأربعين بدقة ومن دون استعمال تقويم، وكيف يمكن التخلص من الليفة والصابونة اللّتين تمّ غسل الميت بهما بالرمي في مجرى ماء.
إنهن حريصات على أن يشهقن عندما يوضع الثوم المقلي مع الكسبرة على الملوخية، وبعضهن يصرخن مولولات لأن هذه الطريقة المثلى كي لا “ترقد” الملوخية. كانت خالتي تُصرّ على أن “البسلة” الناضجة هي “مومياء” وتعتبر هذه علامة على الجودة؛ بينما كنت أنا أرمق طبق “البسلة” في ذعر شاعرًا أن كلمة مومياء لا تريحني كثيرًا.
خالتي كذلك كانت تجلب لنا في زيارتها أكياسًا من الفول السوداني واللبّ.. وفي موعد سنوي لا تتأخر عنه، تقرر أن تنظف حقيبتها فتفرغها لتتناثر بقايا الفول السوداني المهشم على الجريدة.. وكنا –كأطفال- نتصارع حتى الموت لالتهام هذا الفول.. أتذكر هذا المشهد كلما رأيت محاولات الشركات النصابة لتعبئة بعض الفول المهشم في أكياس بجنيه.. أقسم أن فول خالتي كان ألذ بمراحل وكان مجانيًا.

هؤلاء النساء يعرفن كيف يدمّسن الفول ومتى تُضاف ملعقة سكّر في لحظة استراتيجية معينة تضمن له النضج، كما أنهن يعرفن كل شيء عن أبخرة قلي السمك التي تصيب بالجذام (نفس ما اعتقده صيادو النرويج في القرون الوسطى).
أما عن عالم الحسد والعين والأعمال المدفونة؛ فحدث بلا حرج.. لا يستطيع الساحر الشهير “كراولي” نفسه أن يزعم امتلاكه لربع خبرتهن.
هذا الكنز سوف ينقرض أو انقرض فعلاً.. أليس هذا قاسيًا؟
- الآباء الغارقون بالعرق ذوو الكرش، الذين يعودون من العمل ظهرًا ومعهم بطيخة وجريدة.. يتوارى الصِّبْية ذعرًا في غرفهم لأن هذا هو وقت تنفيذ الأم لتهديدها المخيف (هاقول لأبوك أما ييجي).. لا بد أن يُشرف على ذبح البطيخة كأنه يؤدي طقوسًا كهنوتية ما، ويتأكد بنفسه من أن البائع لم يخدعه، يجلس ليلتهم الغداء في نهم وينهيه بكمية هائلة من البطيخ، ثم يدخل لينام وقت العصر.
لو لم تكن عندهم ثلاجة يتأكد من أنه دفن السكين في نصف البطيخة وغطاها بمنشفة حتى لا تشمها الشمامة.. لا أحد يعرف كنه الشمامة بالضبط؛ لكنها كائن سام يحب البطيخ جدًا.
عندما يصحو عند المغرب لن يذهب لأي عمل لأن الراتب يكفيه، بل سيجلس -بالفانلة الداخلية وسروال البيجامة الكستور- في الشرفة نصف المظلمة على الأرض يشرب الشاي بالنعناع.. لديه مذياع صغير يفتحه ليسمع آخر أخبار الجبهة، ثم يعلن نظريته العميقة:
- “إسرائيل تنوي شيئًا ما.. أنا متأكد من ذلك..”.
فتدعو زوجته على إسرائيل.. وهكذا ينتهي الجزء السياسي من السهرة..

من مكانه هذا يدير شئون الأسرة ويصدر تعليماته.. جبل من المسئولية والثقة والهيبة. بعد هذا قد يدخل لينام ثانية أو ينزل ليقابل أصدقاءه في المقهى، أو يذهب للعزاء.. هناك دائمًا شخص مات في مكان ما، ولا بد من العزاء فيه.
هذا الأب يجيد كل شيء؛ إصلاح الصنابير التالفة، وتغيير فتيل المنصهر، وإصلاح لعبة الولد الزنبركية، وتغيير سلك المكواة..

أليس من الخسارة أن ينقرض هذا النوع أيضًا؟
الزمن يتطور.. قد نتحمل رحيل مكوجي الرجل وصانع الطرابيش؛ لكن هناك أنماط من البشر يؤلمني بشدة أن نفقدها، والأقسى من هذا أن تقابل شبابًا لم يلقوا هذه النماذج قط.. انقراض هذه الكائنات الرائعة هو الأقسى والأخطر من انقراض “الباندا” أو ذئب “تسمانيا” أو النسر الأمريكي الأصلع؛ لكنك لا تستطيع أن تنشئ محميات طبيعية لتجار الدوم وبائعات البيض والخالات المحنّكات، أو أن تستنسخهم.. يجب أن تقبل دورة الزمن التي تُحتّم أن ننقرض نحن كذلك.
روايات مصريـة
نشر في 16 نيسان 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع