2907 مشاهدة
0
0
أحيانا أشعر وأنا أتلو القرآن ببعد المسافة الزمنية بين سورة وسورة أو آية وآية وأتساءل: هل إشعار القارئ بهذه المسافة البعيدة مقصود فى سوق الآيات وترتيب السور؟
كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزاليالحلقة [ 32 ] فى ترتيب السور
أحيانا أشعر ـ وأنا أتلو القرآن ـ ببعد المسافة الزمنية بين سورة وسورة، أو آية وآية، وأتساءل: هل إشعار القارئ بهذه المسافة البعيدة مقصود فى سوق الآيات وترتيب السور؟
ولأضرب مثلا لما أعنى، فى الجزء الأخير من المصحف الشريف تعقب سورة النصر سورة الكافرين، وسورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة المنورة وسورة الكافرين من أول ما نزل بمكة المكرمة، أى أن بين السورتين أكثر من عشرين سنة يطويها القارئ فى لحظات سريعة وهو ينتهى من هذه ويبدأ فى تلك.
السورة الأولى نزلت فى غربة الدين وعناء الدعاة وعناد الكافرين نزلت لترسى دعائم التوحيد العملى، وتمهد له الطريق مهما فدح الثمن وازدادت العوائق.
والسورة الثانية نزلت وبشائر النصر تلوح فى كل أفق والقبائل التى نفرت من التوحيد أول أمرها أخذت تثوب إليه وتقبل عليه، وصاحب الرسالة العظيم يستعد للعودة إلى ربه بمزيد من التسبيح والاستغفار بعدما قضى العمر فى جهاد يضنى الأبطال ويوهى الجبال.
كلتا السورتين تقابل الأخرى كأن الأولى تصور البذر والأخرى تصور الحصاد! وأتساءل مرة أخرى: هل هذا الشعور مقصود فى ترتيب السور؟
ويعود السؤال على نحو آخر عندما نتدبر سورة ق المكية بعد سورة الحجرات المدنية. إن السورة المدنية تبرر طائفة من الآداب المطلوبة فى مجتمع مستقر، له قيادة يجب توقيرها وإحسان التلقى عنها، مجتمع له مشكلات يجب التلطف فى حلها كى تبقى الأمة موحدة الصفوف واضحة الهدف..
أما السورة المكية فإن الكلام فيها طال عن البعث والجزاء، وعن قمع الطبائع المتمردة بأهوال النار وشدة الحساب، أو استهواء النفوس النائية بالخيرات الحسان والمغفرة الشاملة.
وبين السورتين قرب معنوى وإن فصل بينهما مكان وزمان. فإن الأخلاق الزكية والسير الطاهرة إنما تنبجس من قلب مؤمن، يعرف الله ويتهيأ للقائه ويرجو وعده ويخشى وعيده.
إن الإيمان بالله واليوم الآخر هو العدو الأول للإباحية والفوضى والعنصر الأول للتسامى والأدب! وكأن مجىء سورة ق بعد سورة الحجرات تذكير بمصدر الطاقة الروحية وراء كل تربية ناجحة واتجاه سليم.
إن القرآن الكريم كتاب تدور معانيه على محاور متقاربة وغايات متشابهة. وتوضيح هذا قد تعنى به التفاسير المطولة، وإنما نلفت النظر هنا إلى شىء ذى بال!
إن الموضوعات الكثيرة التى يستعرضها الكتاب العزيز تتعاون كلها على تكوين عقل مؤمن أو قلب بصير يستطيع الاستقامة فى الدنيا والانتصار على همومها وعقدها.. ذاك ما يصنعه القرآن وهو يصف الكون، أو حين يروى تاريخ الأولين، أو حين يعرض مشاهد الحساب والثواب والعقاب، أو حين ينشىء العبادات ويقوم الأخلاق ويزجر عن الآثام.
إن هذه القضايا القرآنية تتساوق كلها على بناء إنسان سوى المواهب العقلية. والخلقية، مأمون الحكم، محترم الفطرة، معتدل المنهج محيط بأطراف الدين مدرك للنسب القائمة بين فى فروعه وأصوله.
ومن ثم فإننى لم ألق بالحفاوة رجلا يشتغل بالدعوة كان قليل التلاوة للقرآن، قليل التدبر فى معانيه، وهو فى الوقت نفسه كثير الاشتغال بالأحاديث، طويل الانكباب على بعض أبوابها..
قلت: إن الإسلام يقوم يقينا على الكتاب والسنة، وقد اتفق العلماء على أن الكتاب الكريم هو الأصل الأول، وأن السنة مبينة ومفصلة.. وقد يحتاج الصيادون إلى كل ما ورد فى الصيد من سنن، وقد يحتاج اللحادون إلى كل ما ورد فى الأكفان والأغسال من سنن.
أما الصورة العامة للإسلام ورسالته العظمى فلهما شأن آخر ينبغى أن يعرفه عارضو الإسلام فى هذا العصر بشتى الفلسفات والنزعات.
وعلاقة المسلمين بقرآنهم هى أسمى العلاقات وأرسخها، ولذلك يجب أن ندع نفوسنا للقرآن الكريم يشكلها بتوجيهاته وهداياته ويضبط اهتمامها بشعب الإيمان فلا يطغى فرع على أصل ولا يموت فرع بإزاء أصل..
إن الموظف فى ديوان المحاسبة قد يحيا فى عالم من الأرقام، ولكن هل العالم كله أرقام؟ إن الإسلام دين تحدث فى شئون الحياة كلها، بيد أن القرآن الكريم هو الكتاب الذى أعطى الخطة العامة والملامح الرئيسية ومجموعة الظلال والأضواء التى تكشفها.
----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
نشر في 10 تموز 2018
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع