1259 مشاهدة
0
0
لو عاش الإنسان مائتي عام لجن من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان, فهي الحكمة من أن عمر الإنسان لايتجاوز الثمانين غالباً فالحنين للماضي شيء محبب للجميع
كما لا يغيب عن فطنتكم، فلفظة «نوستالجيا» تعني الحنين إلى الماضي، وهذا موضوع محبب لدى الجميع. اليوم أتحدث عن اختراعات حديثة نسبياً ولم تعش طويلاً.. الإنسان اكتشف السيف. فكم ظل يقاتل به؟.. اكتشف النار فما زال يطهو طعامه عليها.. اكتشف الراديو فمازال يستمع له ليلاً.. اكتشف السينما فما زال يذهب إليها ليحلم في الظلام..لكن هناك اختراعات ظهرت وتلاشت بسرعة البرق، مثل تلك الثلاجة الخشبية التي كانت في دار جدك وكانوا يهشمون الثلج قطعاً ويضعونه فيها.. أين هي الآن ؟. جهاز الكاسيت انقرض سريعًا كذلك ليظهر مشغل الأقراص ثم «الإم بي 3». لقد كان جهاز التسجيل شيئاً ساحراً ببكرتيه العملاقتين وجو الفخامة الذي يبعثه حوله، وبالطبع هناك الـ»بيك آب» و»الجرامافون».. أسطوانات «الفينيل» الساحرة التي تضع الإبرة على أولها وتنتظر حتى تنبعث الأنغام العذبة.. لحظة الحسرة التي تغمرك عندما تقابل الإبرة خدشاً ويصاب المطرب بالجنون فيردد ذات العبارة ألف مرة، حتى تنقر أنت الإبرة بطرف سبابتك لتقفز فوق الخدش...
كل هذه اختراعات ساحرة وعاشت فترة قصيرة، لكن أقصر فترة عاشها أي اختراع في التاريخ كانت فترة شريط الفيديو. ظهر شريط الفيديو وأجهزته في البيوت.. كان الجهاز قطعة أثاث فخمة عملاقة تشبه التابوت في الحجم والشكل والمحتوى، ثم ظهرت أجهزة أصغر وأكثر أناقة. ظهرت محال تؤجر شريط الفيديو.. وأذكر رحلاتي الليلية لذلك المحل أو ذاك أسأل عن الفيلم الجديد لروبرت دي نيرو أو يوسف شاهين أو سبيلبرج.. البائع كان ذا دراية بالأفلام تتبادل معه حديثًا ممتعًا وأنت تنتظر ذلك الأحمق الذي استعار الفيلم ولم يعده بعد. فإذا ظفرت بالفيلم عدت للدار هانئاً وأعددت العشاء ثم دسسته في الجهاز لتسمع ذلك الصوت المطمئن للشريط، وهو يغيب في معدة الجهاز، وتظهر الصورة.. حسرة شنيعة سوف تغمرك لو وجدت الشريط متسخًا غير قابل للمشاهدة... طبعاً في الغد سوف تتلقى اللعنات عندما تصير أنت الأحمق الجديد الذي قام بتأخير الفيلم.. فجأة بدأت شرائط الفيديو تختفي.. صاروا يبيعونها على الأرصفة، وظهر الـ»دي في ي» - القرص المدمج - ذلك الوسيط السمج.. سرعان ما يخدش وسرعان ما يتلف ويصير غير قابل للمشاهدة.
عندما امتلكت ما يكفي من مال ابتعت جهاز فيديو بالتقسيط.. وصار هذا الجهاز يحتل أهم مكان في البيت. والرائحة!.. لا تنس الرائحة العطرة التي كانت تنبعث منه عندما كان يعمل.. فجأة اختفى شريط الفيديو ولم تعد له قيمة، وتوارى في خجل في خزانة الثياب، بينما احتل مكانه جهاز آخر اشتريته اسمه «مشغل الأقراص».. ومع هذا الجهاز عرفت المتاعب المتكررة الناجمة عن القرص المخدوش أو المتسخ.. يمكنك دوماً أن تشاهد الأفلام على شاشة الكمبيوتر، لكني أمقت الجلوس الطويل..
قبل أن أنعم لمدة عام بمشغل الأقراص هذا لم تعد له أهمية.. صار هناك شيء اسمه «ذاكرة الفلاش» التي يضعون عليها كل شيء، ويكفي غالباً أن تدخلها في مؤخرة الشاشة لترى الأفلام بها. كما يمكن تشغيلها على كاسيت السيارة لتسمع أي عدد من الأغاني يروق لك..
هكذا يمكن القول إن الفيديو والـ»دي في دي» انقرضا بسرعة البرق.. أسرع اختراعين يزولان في تاريخ الاختراعات البشرية. أمس قال لي أحد باعة الأجهزة، إن التلفزيون الحديث ذا الشاشة المسطحة الذي لدي سوف يزول.. إن التلفزيونات المجسمة هي المستقبل والكل يبتاعها حالياً.. هكذا قال..
هكذا تتوالى اختراعات عديدة، وسرعان ما تهرم ويستغنى الناس عنها. أمس وجدت ذلك «الجرامافون» القديم الخاص بأبي، والذي نسيناه تماماً.. رائحة الغبار والزيت والأسطوانات القديمة، حيث يجلس كلب يصغي لصوت سيده عبر مكبر الصوت. هذه متعة لن تتكرر ويصعب أن تجدها في أي مشغل «إم بي 3»..
بحثت عن جهاز الفيديو القديم فلم أجده.. أعرف أنني لم أبعه .. ولو بعته فلن أجد له مشترياً. من يدري ؟. ربما اكتب مقالاً مشابهاً يوماً ما عن النار .. كم كانت جميلة ودافئة ثم وجد الإنسان بدائل لها!.. هل فهمت الآن الحكمة من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟.. لو عاش الإنسان مائتي عام لجن من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان..
_
نُــشر في: السبت 03 نوفمبر 2012
نشر في 14 كانون الأول 2017