Facebook Pixel
رواية دبيب
1915 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

كانت جمجمته البيضاء تلتمع، تحت أشعة الشمس، وأسراب هائلة من النمل تكمل تنظيف باقى هيكله العظمى وبمنتهى الإتقان

التقط نفسًا عميقًا ، وهو يترك جسده يسقط على مقعد قريب ، ويلهث على نحو عجيب ...
لقد قتلها ...
قتل زوجته ...
أخيرًا فعلها ...
لقد خطط لهذا طويلا ، منذ قرر أنه لم يعد يحتمل إزعاجها المستمر ، وشجاراتها التى لا تنقطع ...
عام كامل ، وهو يخطط لهذا ...
فى البداية أقنعها بالانتقال ، من الحى الذى يقيمون فيه ، إلى تلك المدينة الجديدة ، على أطراف (القاهرة) ...
وفى منزلهما الجديد ، الذى اختاره فى طرف المدينة الجديدة ، بدأ الحفر ...
فى حديقة منزلهما الخلفية ، التى تطل على منطقة مهجورة ، صنع حفرة طولها متران ، وعرضها متر ، وعمقها أربعة أمتار ...
وعندما سألته هى عما يفعله ، أقنعها بأنه ينشىء لها حوض سباحة خاص ، وأوصاها ألا تخبر أحدًا ، حتى تصير مفاجأة للكل ...
ولأنها تعشق التباهى ، احتفظت بالأمر سرًا ...
الشىء الوحيد الذى أزعجه ، خلال عملية الحفر هو النمل ...
نمل كبير ضخم ، يملأ التربة فى كل مكان ، وكأنه يستوطن تلك المدينة الجديدة ، من قبل بنائها ...
ولقد حاول كثيرًا التخلص من النمل ، ولدغاته المؤلمة ...
استخدم مبيدات حشرية ، وسوائل حارقة ، وحتى البنزين ، الذى سكبه فى الحفرة ، ثم أشعل فيه النار ...
وكان النمل يختفى فى كل مرة ...
ثم يعاود الظهور بعد أيام قليلة ...
وفى النهاية سأم القتال ، وقرر فقط أن يكتفى بارتداء زى واق من النمل ...
مهندس الزراعة بالمدينة أخبره أنه نوع من النمل الأبيض ، المقاوم للمبيدات العادية ، ووعده بإحضار مبيد خاص ...
ولكنه لم يفعل ...
وهو لم يسأله ...
لم يرد جذب الانتباه للحفرة ، التى ستستقر فيها زوجته إلى الأبد ...
وطوال ذلك العام ، شكى لكل من يعرفهم من أن زوجته لم تعد تحبه ، وأنه يشك فى علاقتها بآخر ...
وبعد عدة أشهر ، بدأ يشكو من أنها تهدد بتركه ، والفرار مع ذلك الآخر ...
ومع تكرار القصة ، صدق الناس ..
وتعاطفوا معه ...
وأشفقوا عليه ...
وعندئذ أدرك أن ساعة التنفيذ قد حانت ...
وفى تلك الليلة ، وبينما كانت تعد طعام العشاء ، فاجأها بكيس من النايلون على رأسها ، أمسكه فى إحكام ، وهو يبعد جسده عنها ، متفاديًا أظفارها وركلاتها ، حتى همدت أنفاسها وخمدت ...
كان واثقا من أنها قد لفظت أنفاسها الأخيرة ، وعلى الرغم من هذا ، ظل يقبض على الكيس فى قوة ، حتى أيقن من استحالة بقائها على قيد الحياة ...
كانت ملامحها داخل الكيس بشعة مقززة ، مع لسانها المتدلى خارج فمها ، وعينيها المتسعتين فى ألم ورعب ...
وبيد مرتجفة ، أفلت الكيس وكوَّمه ، وألقاه فى سلة البقايا ...
ثم جلس يلهث ...
الخطوة الأساسية تمت ...
قتلها ...
وبقيت الخطوة الحتمية ...
دفنها ...
وبعد أن يدفنها فى الحفرة الخلفية ، ويصب القار على جسدها ، ضمانًا لعدم تسرب روائح تحلل جثتها ، سيهيل عليها التراب ، ويستحم جيدًا ، وينتظر حتى يهدأ ، ثم يجرى اتصالاته بالجميع ...
أهلها ...
أقاربها ...
زملائها ...
أصدقائها ...
سيسأل الكل عنها فى ارتياع ، موحيًا بأنه يبحث عنها كالمجنون ...
ولا بأس من بعض النحيب ...
والدموع ...
والبكاء ...
حتى هذا تدرب عليه طويلا ...
خطته محكمة ، لا تقبل الفشل ...
حتى الحفرة ، ابتاع عدة لفات من حشائش الأرض ، ليفردها فوق مساحة الحديقة الخلفية كلها ، وينثر بها بعض الورود ، بحيث لا يخطر ببال أحد أن يبحث عن جثتها أسفلها ...
كل شىء مخطط بدقة ...
بمنتهى منتهى الدقة ...
لم يترك تفصيلة واحدة ، مهما بلغت دقتها ...
ظل جالسًا فى مقعده ، حتى هدأت أنفاسه ، ثم قام ، فأحضر كيسًا ضخمًا ، أعده مسبقًا ...
كيس قوى سميك ...
ولساعة كاملة ، وضع جثة زوجته فى ذلك الكيس ، وأحكم إغلاقه ، بعد أن وضع داخله كمية كبيرة ، من كرات النفتالين ، ضمانًا لعدم تسرب الروائح ...
وبعدها جلس يرتاح بعض الوقت ، ويرتب أفكاره ...
ووفقًا للخطة ، خرج يفرد لفات الحشائش على أرض الحديقة الخلفية ، ويوزع الورود والزهور فى الأطراف ، تاركًا موضع الحفرة فقط ...
لابد من أن ينهى كل شىء فى سرعة بعد دفنها ...
وضع وعاء القطران تحت النار ، بالقرب من الحفرة ، وحمل جثة زوجته ، وألقاها فى الحفرة ، وألقى عليها نظرة شامتة أخيرة ...
الآن لم يعد باستطاعتها أن تزعجه ...
ولا أن تتشاجر معه ...
صوتها المرتفع لن يصدع رأسه مرة أخرى ...
لقد أخرسها ...
وإلى الأبد ...
شعر بلدغة فى ساقه ، وهو يقف على طرف الحفرة ، ورأى نملة كبيرة ، تسير على ثنية بنطاله ، فنطرها بعيدًا فى ازدراء ...
يا لهذا النمل السخيف ...
ليس هذا وقته ...
على الإطلاق ...
لاحظ سربًا منه يسير ، عند طرف الحفرة ، وواتته فكرة سادية ، جعلته يعود إحضار قليل من الكحول ، سكبه على سرب النمل ، ثم أشعله ...
وفى استمتاع ، شاهد النمل يحترق ...
اليوم بالذات لا شىء سينتصر عليه ...
لا زوجته ...
ولا النمل ...
احترق النمل عن آخره فى لحظات ، فالتمعت عيناه فى ظفر ، وبدأ فى تسخين القار ، فى ذلك الوعاء الكبير ، حتى سال وصار أشبه ببحيرة سوداء مظلمة ، فأمال الوعاء ، على نحو تدرب عليه مسبقا ، وسكب القار والقطران على جثة زوجته ، حتى غطاها تمامًا ...
وعلى طرف الحفرة ، وقف يشاهد نتيجة عمله فى إعجاب ...
الخطة متقنة بحق ...
الجريمة الكاملة ...
الجريمة التى أدعوا أنها مستحيلة ...
وعلى الرغم منه ، انفلتت من بين شفتيه ضحكة عالية ...
ضحكة ظافرة ...
واثقة ...
مجلجلة ...
قوية ...
وعند طرف الحفرة ، وبينما ما زال يحمل جاروف الحفر بيسراه ، لوح بقبضته اليمنى فى الهواء ...
الآن صار حرَّا ...
تحرر من زوجته ...
من إزعاجها ...
من شجاراتها ...
من السجن الذى وضعته فيه ...
الآن استعاد حريته ، و...
اختل توازنه فجأة ، عندما انهارت حافة الحفرة تحت قدميه ...
وهوى ...
حاول أن يتشبث بشىء ...
أى شىء ...
ولكن فى منتصف حديقة خالية ، لا يوجد ما يتشبث به ...
اللهم إلا وعاء القار الساخن ...
وبحركة غريزية ، أمسك به ، ولكن حرارة الوعاء أجبرته أن يفلته ...
واكتمل سقوطه ...
وارتطم بالقار فى القاع ...
وبتناغم عجيب ، سقط جاروف الحفر على رأسه ، وارتطم به فى قوة ، فى نفس اللحظة التى شعر فيها بسخونة شديدة على ساقيه ، و ...
وفقد الوعى ...
لم يدر كم بقى فاقد الوعى ، ولكنها ليست فترة طويلة حتمًا ؛ لأن الظلام ما زال يخيم على المنطقة ، والصمت يغلفها تمامًا ...
إنه عارض صغير إذن ...
سيخرج من الحفرة ، ويواصل الخطة ...
ولكن مهلًا ...
إنه عاجز عن تحريك ذراعه اليمنى وساقيه ...
ماذا حدث ؟..!
هل أصيب بشىء ما ؟ ..!
حاول أن يرفع رأسه ، ويميل ببصره ، ليدرك ماذا حدث ؟!
يا للهول ...!
لقد سقط فوق القار ، الذى لم يجف بعد ، وتشبثه بالوعاء قلبه ، وسكب ما تبقى فيه من قار على ساقيه ...
لقد التصق بالقار ، الذى سكبه فوق جثة زوجته ...
هذا الجزء لم يكن فى الخطة ...
والاحتمال لم يجل بخاطره قط ...
ولكن ما زال هناك أمل ...
ذراعه اليسرى حرة ...
وكذلك الجاروف ...
إنه يستطيع استخدام حافته ، لتخليص ساقيه وذراعه اليمنى ...
إنها مسألة وقت فحسب ...
خطأ كهذا لن يفسد خطته المحكمة ...
ولكن ما هذه الآلام ، فى كل مكان فى جسده ..
لدغات عديدة مؤلمة ...
هنا فقط ، اتسعت عيناه عن آخرهما ، بكل رعب الدنيا ...
الجزء المنهار ، من حافة الحفرة ، كشف خلية هائلة لذلك النمل الأبيض العملاق ...
وجسده كله مغطى به ...
آلاف النمل على جسده ، يلدغه بلا رحمة ...
بل يلتهمه التهامًا ...
حاول تخليص ذراعه اليمنى ، أو استخدام جاروف الحفر ، لدفع النمل عن جسده ...
ولكن هيهات ...
أعداد النمل راحت تتزايد وتتزايد ، ولدغاتهم صارت أشبه بأنياب صغيرة ، تنهش فى كل جزء من جسده ...
وصرخ ...
صرخ مستنجدًا ...
صرخ ... وصرخ ... وصرخ ...
ولكن خطته كانت محكمة تمامًا ...
من المستحيل أن يسمعه أحد ، فى طرف المدينة الجديدة ، وفى مواجهة المنطقة المهجورة ...
وعلى كل جسده ، شعر بدبيب النمل ...
وراحت الأنياب الدقيقة تنهش جسده ، وهو يواصل صراخه ...
ثم ، ومع مطلع الفجر ، توقفت صرخاته تمامًا ...
ومع الظهر ، كانت جمجمته البيضاء تلتمع ، تحت أشعة الشمس ، وأسراب هائلة من النمل تكمل تنظيف باقى هيكله العظمى ...
وبمنتهى الإتقان .
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
روايات مصريـة
نشر في 04 آذار 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع