Facebook Pixel
518 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

يجب علي أن أشطب كل إجاباتي القديمة عن تعريف الحب.. فكلّها خاطئة لأنه إن لم يكن هذا التدمير اليومي والممنهج لقدرتي على البقاء حيا بدونك هو الحب.. فما هو الحب إذن؟ قولي لي.. ما هو الحب؟

ما هو الحب؟؟
##
عندما رأيتك لأول مرة.. تدخلين عبر ذلك الباب الزجاجي كغزالة بيضاء.. أدركت ما معنى أن يصعق الإنسان.. أن يضربه سحر ما فيستلبه من وجوده.. ويحوله إلى مجرد عينين شاخصتين ذاهلتين.. لا أذكر فعلا ما الحوار الذي دار بيننا وقتها.. ربما كان كلاما عابرا متلعثما.. لكنني عندما عدت إلى منزلي، عدت وأنا أخبئ تلك الكلمات في راحتيّ كمن يخبئ كنزا.. وأمضيت تلك الليلة الشتائية كاملة وأنا أعيد رسم ملامحك في ذاكرتي وعيني.. أستعيد نغمة صوتك.. ضحكتك.. شعرك الأسود القصير كشعر صبيّ مدلل.. حضورك الطاغي.. كل تفصيل صغير فيك.. استعدته مرات ومرات ومرات.. ولم يأخذ ذلك التكرار من حلاوته شيئا.. واعتقدت وقتها أن تلك السعادة التي تفيض في ضلوعي، هي ذاتها الحب الذي يتغنى به الشعراء والكتاب.. كانت تلك إجابتي عن الحب فيما لو سئلت عنه.. لكن حين قبلت دعوتي للغداء بعد ذلك بأيام.. تغير كل شيء..

كان ذلك أول لقائي مع تلك النار التي تستعر في الصدر والقلب والعقل والبطن وتحت الأرجل دونما حمىّ أو مرض ظاهر ويسميها العارفون الشوق.. أولى تجاربي مع الضياع في المكان.. عرفت معنى أن يتواجد الإنسان في غرفة صغيرة ومع ذلك يحس أنه ضائع في الفراغ.. يريد أن يذهب إلى كل مكان وأي مكان.. أن ينطلق بأقصى سرعة في الاتجاهات الأربع في الوقت نفسه.. لكنه مقيد بشيء لا يراه.. ويدور ويدور حول نفسه دون جدوى.. وقتها عرفت معنى أن يستيقظ الإنسان عدة مرات في الليل لينظر إلى الساعة.. ويلعن الساعة.. وعقارب الساعة.. وبطء الساعة.. ومن اخترع الساعات أساسا!! حينئذ فقط أدركت أن إجابتي الأولى عن الحب كانت خاطئة.. وأن ما سميّته حبا في لقائنا الأول لم يكن سوى انبهار المحروم.. وأن كل أولئك الشعراء الذين تغزلوا بعيون المها وجيد الغزلان، وكنت أظنهم سادة العشق وأساتذته، لم يكونوا في حقيقة الأمر إلا مراهقين مبهورين محرومين.. مثلي تماما.. وأنه لا يحلّ لمن لم يجرب الشوق.. ويعرف كيف يمكن للإنسان أن يحترق من داخله أن يصف نفسه بالعاشق!!

ثم التقينا.. ولمست السماء بيدي.. فوجدتها ملئت سحرا شديدا وألقا.. وأدركت حينها معنى أن يجالس الإنسان غيمة.. أو أن يتشارك طعامه مع غزالة.. وبماذا يحس الإنسان عندما يصافح ملاكا بيديه.. وتغيرت مفاهيم الزمان والمكان لدي.. فرأيت كيف لوجودك قي مكان ما، أن يحول الشوارع السوداء والأراضي الجرداء إلى جنة عدن.. وكيف أن الاستغراق في سماع كلماتك يجعل تلك الساعة السلحفاة تنهض على ساقيها وتعدو كحصان هارب.. وأدركت حينئذ ما كنت فيه من جهل حين ظننت أن الشوق هو الحب.. ولم يكن ذلك إلا لجهلي بالوصل ولذيذ الوصل..

ثم تزوجنا.. ولم يعد هناك من ليال شوق أو لحظات وصل.. بل نهر دافق من سكينة تسكبينه في روحي.. فوقر في قلبي أن هذه الصلة الصلاة التي جمعتنا هي جنة المأوى وسدرة المنتهى وآخر محطات الحب.. وأنني قد أخذت من الهوى قسمتي ونصيبي.. وبلغت أقصى ما يمكن لعاشق أن يبلغه.. إلا أن ما حدث بعد ذلك قد غير رأيي..

إذ أنني بدأت اكتشف.. أنني أصبحت لا أتناول إفطاري إلا عندما تتناولين أنت إفطارك.. وإن حدث وأكلت، فلقيمات باهتة لا طعم لها.. ولا تسمن ولا تغني من جوع.. وأنني لا أنام إلا بعد أن أتأكد أنك نمت.. وإن حدث وغفوت للحظات، أكلني قلقي وكوابيسي.. وظننت في البداية أن هذه قد تكون عوارض حمى أو نتيجة لتغير الطقس أو شيئا مما يعرض للناس ولا يلبث أن يزول.. لكنني كنت مخطئا.. فقد بدأ هذا الشيء ينتشر في دمي كالسمّ.. وأصبحت لا أجد الشيء مضحكا إلا لو أضحكك أنت.. ولا أبسم إلا لو تبسّمت أنت.. وإن كدّر شيء ما خاطرك.. اسودّت الدنيا في عينيّ حتى ترضي.. أصبحت لا أرى الحياة إلا من خلالك.. ولا أدرك الأشياء إلا عبر علاقتها بك.. وحبّك الذي تصورته يوما ما شيئا جميلا أستمتع به ساعة من نهار.. تغلغل في روحي وأضحى صبغتها وطابعها وسرّها.. إلى الدرجة التي عجزت فيها عن تعريف نفسي بدون أن أذكرك..

الآن .. وبعد كل تلك الأعوام من دخولي هذا الأسر الجميل.. أجد من الضروري يا سيدتي، أن تسمحي لي بأن أشطب كل إجاباتي القديمة عن تعريف الحب.. فكلّها خاطئة.. لأنه إن لم يكن هذا التدمير اليومي والممنهج لقدرتي على البقاء حيا بدونك هو الحب.. فما هو الحب إذن؟ قولي لي.. ما هو الحب؟

#ديك_الجن
كتابات ديك الجن
نشر في 13 شباط 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع