1110 مشاهدة
1
0
شغل هذا السؤال الفلاسفة لفترة طويلة ، ولكن في الآونة الأخيرة أصبح هذا السؤال متعلقاً بالعلم أيضاً. يقترح العديد من علماء الفيزياء والكونيات وبعض الخبراء في التقنيات الحديثة بأننا جميعاً نعيش داخل محاكاة حاسوبية ضخمة!
هل كوننا مجرد محاكاة حاسوبية ؟ هل نحن حقيقيون ؟شغل هذا السؤال الفلاسفة لفترة طويلة ، ولكن في الآونة الأخيرة أصبح هذا السؤال متعلقاً بالعلم أيضاً. يقترح العديد من علماء الفيزياء والكونيات وبعض الخبراء في التقنيات الحديثة بأننا جميعاً نعيش داخل محاكاة حاسوبية ضخمة ، نعيش في عالم افتراضي بهيئة مصفوفة ، ولكننا نعتقد أنه حقيقي. بالطبع ، ترفض حواسنا هذا الإدعاء ، حيث أن كل شيء حولنا يبدو حقيقياً، كأس الماء في يدك، رائحة القهوة، الأصوات من حولك. ولكن ضع بإعتباراتك التقدم الهائل الذي حصل في مجال تقنيات الحاسوب والمعلومات على مدى العقود القليلة الماضية. حيث مكّنتنا الحواسيب من الحصول على ألعاب واقعية بشخصيات مستقلة تستجيب لخياراتنا فضلاً عن التوصل لمحاكاة الواقع بطريقة مقنعة. يتناول فلم المصفوفة (The Matrix) هذه الفكرة بوضوح. حيث تدور احداث الفلم عن قوة شريرة تحاصر البشر داخل عالم افتراضي يتقبلونه على أنه عالم حقيقي.
ولكن هناك سؤالان حول هذا الموضوع. الأول كيف يتم التأكد من اننا نعيش في محاكاة؟ والثاني هل الأمر يهم إن كنّا كذلك؟
هنالك بعض الشخصيات البارزة التي تتبنى فكرة أننا عبارة عن محاكاة حاسوبية. حيث أكد رجل الأعمال الخبير في مجال التقنيات "آيلون ماسك" إن الإحتمالات مليار إلى واحد ضد كوننا نعيش في واقع حقيقي. كما اقترح راي كوزرويل ، وهو خبير في مجال الأجهزة الآلية ، بأن الكون الذي نعيش فيه قد يكون عبارة عن تجربة علمية لطلاب ثانوية في كون أخر !
كما لا يستبعد الكثير من علماء الفيزياء هذا الإحتمال ، حيث ناقش العديد منهم في إبريل 2016 هذا الاحتمال في المتحف الامريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك / الولايات المتحدة.
واقترح عالم الكونيات آلان جوث من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن كوننا قد يكون حقيقياً. ربما يكون نوع من التجارب المختبرية. فهو يقترح بأن كوننا قد تم انشاؤه من قبل كائنات فائقة الذكاء مثلما يقوم العلماء بتكوين مستعمرات من الكائنات الحية الدقيقة. حيث لا يوجد شيء من حيث المبدأ يجعلنا نستبعد إحتمالية أن الكون نتج عن انفجار كبير مصطنع تم ملئه بمادة وطاقة حقيقيتين كما يقول جوث. أي قد يكون كوننا قد ولد في تجربة مكافئة للتجارب التي تجريها في إنبوب الإختبار. ولكنه حقيقي من الناحية الفيزيائية.
من جهة أخرى، يقترح أيلون ماسك واتباعه بأننا كائنات محاكاة بالكامل، مجرد سلاسل من المعلومات يتم التحكم بها ضمن أجهزة حاسوب عملاقة تماماً كالشخصيات في ألعاب الفيديو .
لكن لماذا نصدق بإحتمال كهذا ؟ الحجة بسيطة للغاية، فنحن بالفعل نجري عمليات محاكاة وكلما أصبحت التكنولوجيا افضل سنتمكن من الحصول على محاكاة تبدو اكثر واقعية. كما إننا لا نستخدم المحاكاة الحاسوبية في مجال الألعاب فقط، بل نستخدمها في مجال البحوث العلمية حيث يحاول العلماء محاكاة جوانب مختلفة من العالم تتراوح مستوياتها من المستوى دون الذري إلى التجمعات العملاقة للمجرات. وتصبح تلك المحاكاة اكثر تعقيداً كلما زادت امكانيات الحواسيب. وربما بعد فترة طويلة سنتمكن من صنع كائنات افتراضية تُظهر علامات وعي . حيث أن التقدم الحاصل في فهم الدماغ فضلاً عن الامكانيات الحاسوبية الواسعة التي ستوفرها الحوسبة الكمومية تجعل هذا الأمر محتملاً يوماً بعد يوم. وعلى هذا الأساس، أليس من المحتمل أن تكون كائنات ذكية في مكان اخر قد وصلت بالفعل إلى هذه التقدم. إذا كان الأمر كذلك فمن الطبيعي أن تعتقد كائنات مثلنا بأننا نعيش في محاكاة.
لخص الفيلسوف نيك بوستروم، من جامعة اوكسفورد في المملكة المتحدة هذا السيناريو إلى ثلاثة إحتمالات :-
أننا لن نصل أبداً إلى هذا التقدم بحيث نستطيع صنع محاكاة كهذه، ربما لأننا سنقضي على أنفسنا قبل بلوغ هذه المرحلة.
أننا نصل هذه المرحلة، ولكننا نختار لسبب ما ان لا تجري هذه المحاكاة ، هو إننا نعيش حالياً ضمن محاكاة حاسوبية !
ذكر عالم الفيزياء الفلكية والحاصل على جائزة نوبل جورج سموت أنه لا يوجد سبب لنؤمن بالاحتمالين الأول والثاني.
بالتأكيد هنالك الكثير من المشاكل التي تتسبب بها البشرية مثل التغير المناخي والأسلحة النووية وحالات الانقراض الجماعي. ولكنها لا تعد مشاكل نهائية تتسبب بالقضاء على الحضارة البشرية.
بالإضافة إلى ذلك لا يوجد ما يشير إلى أن عمليات المحاكاة التفصيلية هذه، والتي تعتبر فيها الشخصيات أنفسها حقيقية وذات إرادة حرة، مستحيلة من حيث المبدأ.
اما بالنسبة للاحتمال الثاني، وهو أننا من الممكن أن نتوقف عن إجراء مثل هذه المحاكاة لأسباب اخلاقية أو قد يكون من غير المناسب إنشاء كائنات تم محاكاتها وتعتقد أنها موجودة ولديها استقلالها، فهو غير محتمل. حيث إن أحد الأسباب الرئيسية لإجراء عمليات المحاكاة اليوم هو معرفة المزيد عن العالم الحقيقي وهذا سيساعدنا في جعل العالم أفضل وإنقاذ الأرواح.
ذلك يتركنا للاحتمال الثالث، وهو اننا ربما عبارة عن محاكاة حاسوبية. هذا مجرد افتراض، هل يمكن أن نجد دليل على ذلك؟
يعتقد العديد من الباحثين أن ايجاد الدليل يعتمد على مدى جودة المحاكاة وأن أفضل طريقة لإيجاد دليل على كونها محاكاة هو البحث في عيوب البرنامج تماماً مثل الأخطاء التي تحدث في أية طبيعة مصنعة.
ويجادل بعض العلماء بأن هنالك بالفعل أسباب وجيهة للاعتقاد بأننا نعيش داخل محاكاة حاسوبية. وأحد تلك الأسباب هي أن كوننا يبدو مُصمماً.
إن الثوابت الطبيعية، مثل القوى الأساسية لها قيم تبدو دقيقة لجعل الحياة ممكنة وإن إجراء تعديلات بسيطة على تلك الثوابت تجعل الذرات غير مستقرة أو قد لا تسمح للنجوم بالتكوين. ويُعد ذلك من أعمق الأسرار في علم الكونيات. أحد التفسيرات المحتملة لوجود تلك الثوابت هو وجود "أكوان متعددة" وكل واحدة منها خُلق نتيجة الصدفة وقد يستضيف بعضها حياة ولو لم نكن في كون كهذا فلن نستطيع أن نطرح هذا السؤال لأننا حينها لن نكون موجودين.
مع ذلك، فإن فكرة الأكوان المتعددة تبدو فكرة أكثر تقبلاً. فهي أفضل من إننا مجرد محاكاة ادخلت بياناتها بشكل دقيق لتعطي هذه النتائج مثل النجوم، والمجرات، والأشخاص...الخ. ربما يكون ذلك ممكنا ولكن هذا التفسير لايأخذنا لأي دليل. إذ رُبما يكون الكون الذي يعيش فيه مُصنعونا أيضاً مُصمم بطريقة دقيقة تسمح بوجودهم أيضاً لذلك فإن الافتراض بأننا مجرد محاكاة لن يحل هذا اللغز.
يستخدم علماء اخرون بعض الاكتشافات الحديثة كدليل على أن الكون عبارة عن محاكاة حاسوبية خاصة بعد أن أظهرت نظرية ميكانيك الكم العديد من الأمور الغريبة، على سبيل المثال تتخذ كل من المادة والطاقة شكلاً حبيبياً، وكذلك وجود حدود للدقة التي نستطيع من خلالها إستكشاف الكون فكلما حاولنا دراسة اجساماً أصغر، كلما أصبحت الصورة أكثر ضبابية وغرابة. يقول سموت بأن هذه الميزة المعقدة في فيزياء الكم هي مشابهة لما يحدث في المحاكاة الحاسوبية، تماماً مثلما يحدث في شاشة العرض الرقمية عند تقريب الصورة. هذا مجرد تقريب للفكرة فقد لا يكون الشكل الحبيبي للجسيمات شيء في غاية الأهمية حسب معرفتنا الحالية ولكن قد يكون له معنى يتعدى معرفتنا.
هنالك جدل أخر وهو أن الكون يعمل وفق نظريات رياضية، تماماً كما يعمل البرنامج الرقمي، حيث يعتقد بعض العلماء بان الواقع مجرد رياضيات. يعتقد ماكس تيغمارك (MaxTegmark) من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن هذا ما نتوقعه لو كانت الفيزياء تقوم على اساس خوارزمية حسابية.
مع ذلك، يبدو ذلك غير مقبولاً لدى العديد، لسبب وهو أنه لو كانت هنالك حضارة فائقة الذكاء تقوم بتشغيل محاكاة لعالمهم الحقيقي فمن المتوقع أنهم سيستخدمون نفس المبادئ الموجودة في كونهم تماماً كما نفعل عندما نخلق محاكاة، وبهذا لن يكون السبب الذي يجعل عالمنا رياضياً هو أنه يعمل على الحاسوب ولكن لأن العالم الحقيقي أيضاً يعمل وفقاً للرياضيات. مع ذلك، يمكننا أن نجري محاكاة لقواعد رياضية مختلفة عن تلك الموجودة في واقعنا أي تعمل بشكل عشوائي ولكن في تلك الحالة لن تكون "واقعية".
يعتقد جيمس غيتس من جامعة ماريلاند أن هناك سبب أكثر تحديداً للشك في أن قوانين الفيزياء تم ادخالها من قبل محاكاة حاسوبية. تُعد دراسات غيتس مهمة على مستوى الجسيمات دون الذرية مثل الكواركات، وهي مكونات البروتونات والنيوترونات في نواة الذرة. ويقول أن القواعد التي تحدد سلوك هذه الجزيئات تمتلك ميزات مشابهة للرموز تصحح الاخطاء في معالجة البيانات في أجهزة الحاسوب. ربما تفسير هذه القوانين الفيزيائية على أنها رموز لتصحيح الأخطاء هو مثال أخر على الطريقة التي تفسر بها الطبيعة على اساس تقنياتنا المتقدمة.
إنه من الصعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً إيجاد دليل قطعي يثبت أننا نعيش في محاكاة حاسوبية ما لم تكون تلك المحاكاة تحتوي على أخطاء. ولكن من الصعب جداً تصميم اختبار يمكن من خلاله تحديد ذلك.
ربما لن نستطيع التأكد من ذلك ابداً، السبب ببساطة هو أن ادمغتنا لن تكون بمستوى المهمة. فعندما تقوم بتصميم الشخصيات ضمن المحاكاة فإنك ستصممها لتعمل ضمن قواعد اللعبة وليس لتخطيها. ربما يكون هذا الصندوق الذي لا يمكننا التفكير خارجه.
هنالك سبب أخر يجعلنا غير مهتمين بفكرة اننا مجرد معلومات يتم التحكم بها بواسطة أجهزة حاسوب عملاقة وهو أن العديد من علماء الفيزياء يعتقدون بأن عالمنا الحقيقي عبارة عن معلومات في جميع الأحوال. يعتقد بعض الفيزيائيون استناداً إلى نظرية الكم أنه عند المستويات الأساسية فأن الطبيعة ربما لا تكون رياضيات بحتة، وانما هي عبارة عن معلومات، أي بتات (Bits) مثل الرقم (1) و(0) في الحاسوب. وأطلق عالم الفيزياء النظرية جون ويلر على هذه الفكرة (If from Bits).
"ربما يمكن اعتبار الكون حاسوب كمي ضخم" هذا ما يعتقده سيث لويد من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. "إذا نظر المرء إلى مكونات الكون على أصغر مستوى فأن تلك المكونات لن تكون سوى بتات كمومية تجري عمليات حسابية رقمية ولكن إن كان هذا صحيح فأننا مجرد معلومات سواء كنا محاكاة أم حقيقة. هل سيحدث فرقاً إن كانت هذه المعلومات مبرمجة بطبيعتها أم يتم التحكم بها من قبل حضارات فائقة الذكاء؟ ما عدا فكرة أن يقوم المصنعون بمسح هذه المحاكاة. ليس لدينا خيارات لمحاولة لفهم ما يمكن أن تكون عليه تلك الحضارة التي قد تكون صنعتنا غير أن ننظر إلى أنفسنا. أي أننا ندور في حلقة من الجهل.
إن فكرة أن الكون عبارة عن محاكاة هي فكرة قديمة. حيث تسائل إفلاطون مرة فيما إذا كان ما نراه كواقع هو مشابهاً للظلال الساقطة على جدران كهف. في حين تقبل رينيه ديكارت فكرة أن القدرة على التفكير هي المعيار الوحيد المعقول للوجود في مقولته الشهيرة
" أنا أفكر، إذن أنا موجود ".
لقد أخذ الجدال على هذا الموضوع زمناً طويلاً دون التوصل إلى نتيجة نهائية. ففي أوائل القرن الثامن عشر صرح الفيلسوف جورج بيركلي بأن العالم مجرد وهم. ولإسقاط هذه الفكرة، صرخ الكاتب الإنكليزي سامويل جوسون "أنا أدحضها هكذا" وركل حجراً...
جوسن لم يدحض الفكرة...ولكن ردة فعله كانت صحيحة.
بقلم :- فيليب بيل Philip Ball
ترجمة : Nada M Allawi
#العراقي_العلمي
نشر في 26 حزيران 2018