1379 مشاهدة
0
0
مقال للكاتب أحمد خالد توفيق يحكي فيها عن الحياة التي كانت في السبعينات, وعن الساحة الثقافية التي مر بها المجتمع ذاك الوقت
أزمة العصر والإنسان !بقلم د. أحمد خالد توفيق
يونيو 2010.. نشر في كتاب شاي بالنعناع
اليوم سوف أعود بك إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي .. على الأرجح كنت أنت في علم الغيب وقتها، أما أنا فكنت طفلاً في المدرسة الابتدائية نهمًا للمعرفة بطريقة غير عادية .. نباتًا ينمو متأهبًا لأن يمتص كل قطرة يقابلها حتى لو كانت قطرة عرق. في هذه الفترة تشكل وعيي للأبد ، وقرأت أول ما قرأت من مجلات بعينين متسعتين.. طبعًا لم أكن أستوعب معظم ما أطالعه لكنني لا أنساه أبدًا.
كانت تلك الفترة أعوامًا صاخبة بحق .. الشباب ثائر في العالم كله لأنه يشعر أن الكبار أوغاد منافقون متحجرون .. حرب فيتنام مشتعلة وقد بدأت تكلف أمريكا أرواحًا ومالاً أكثر من اللازم، وبدأ الناس في أمريكا يتساءلون: لماذا يقوم البيض الذين سرقوا أرض الحُمر بإرسال السود ليقتلوا الصُفر في الجانب الآخر من العالم ؟ .. الشباب الأمريكي يهجر بيته ليلبس القمصان المشجرة ويمشي حافيًا ويتعاطى عقار الهلوسة ويعيش في الشوارع.. البيتلز عادوا من التبت وقد اعتنقوا البوذية.. كل شيء مشجر وزاهي الألوان أو ما يطلقون عليه (سايكدليك). وفي هذا الوقت بالذات - عام 1969 - أقام الهيبيز مهرجانهم الأضخم والأشهر (وود ستوك) في واشنطن.. لابد أنك سمعت أغنية (حرية) التي كانت زهرة ذلك المهرجان ..
أعتقد أن هذه الفترة أثرت بشدة في كاتبنا النشيط (محمود قاسم)، وله رواية جميلة اسمها (شارلستون) عن تلك الحقبة تصفها بأمانة ودقة.
في هذه الفترة بالذات عرفت الساحة الثقافية نوعًا فريدًا من المخلوقات؛ هم الكتاب والصحفيون والرسامون الذين يسافرون للخارج عشر مرات في العام، على حساب الجريدة التي يعملون فيها طبعًا.
كان من السهل أن تعرف هؤلاء المثقفين من شكلهم، بالشارب طراز جنكيز خان المتدلي على جانبي الفم، والشعر الذي يتدلى على الكتفين، والسجائر الأجنبية، والمعطف الذي يحرص المثقف على أن يلتقط به بعض الصور لنفسه في ميدان ترافلجار أو سان ماركو أو أي ميدان يغطيه الحمام ..
بعد هذا يكتب فلا يحاول استيعاب قيم العمل والنظام والعلم في الحضارة الغربية ..فقط هناك دائمًا تلك القصة الحمضانة عن الكاميرا التي نسيها في الأتوبيس، وعاد ليجدها حيث هي بعد عشرة أيام.. أو عن قشر اللب الذي ألقاه في الشارع – هل هناك لب في باريس ؟ - ثم نظر خلفه فوجد رجل الشرطة يمشي خلفه من أول الشارع وقد جمعه كله في قبضته، ثم قال له: دونت دو ذات (هل رجال شرطة باريس يتفاهمون بالإنجليزية ؟).
الآن جاء دور المظاهر السطحية للحضارة الأوروبية.. المظاهر التي تبهره جدًا ويوشك على البكاء تأثرًا وهو يحكيها لنا مع نغمة (أنا شفت وانتوا لأه).. الحرية الجنسية ومحلات البورنو وأنواع النبيذ والفكر الوجودي والملاهي الليلية، وما يحدث في الشوارع بينما المارة لا يتدخلون .. الخ .. طبعًا هذا الأخ لا يرى من الفكر الوجودي سوى فتاة تلبس شبشبًا تنفث سحابة كثيفة من الدخان وهي تنظر للسماء، وأمامها كأس مترعة، ومستعدة أن تذهب مع أي واحد إلى أي مكان في أية لحظة .. لماذا ؟ .. لأنها وجودية طبعًا يا أخي ..
تقريبًا كان هذا ما يكتبه كل واحد منهم، ثم يكتب في انبهار عن فيلم إباحي جديد تراه لندن وباريس ليقول لنا إنه يناقش (أزمة العصر والإنسان). دائمًا أزمة العصر والإنسان حتى أصبت بحساسية من هذه العبارة، وأرشحها لتكون من أنواع الأرتيكاريا المعروفة. لابد من الكلام عن حرب فيتنام كذلك ليبدو الأمر عميقًا. رأيت فيلمًا لبنانيًا تم تصويره في تلك الفترة، فلم أجد مشهدًا واحدًا أقبل أن يراني أحد وأنا أشاهده، لكن في منتصف الفيلم يظهر رجل عجوز يحمل كأسًا، ويقتاد البطلة إلى جدار علق عليه بعض صور حرب فيتنام ليقول لها في عمق:
ـ"حرب فيتنام .. يا سلام !!"
بهذه العبارة البلهاء صار الفيلم عميقًا وصار يناقش (أزمة العصر والإنسان).
في ذلك العصر اشتهر (كلود ليلوش) جدًا بفيلمه الأول (رجل وامرأة)، وهو فيلم لا بأس به وفيه مجموعة طريفة من التقنيات الجديدة، أضف لهذا اللحن الجبار الذي يعرفه الجميع، والذي لو استعملته لحنًا تصويريًا لزجاجة زيت تموين لصارت قطعة من الفن الرفيع. بعد هذا قدم ليلوش حشدًا من الأفلام، حوّل فيها (رجل وامرأة) إلى جورب يقلبه بألف طريقة ممكنة ويحاول بيعه من جديد. في فيلم متأخر اسمه (رجل آخر .. امرأة أخرى) يقول في بدايته: "إن كل القصص قصة واحدة في النهاية !" . علق الناقد الجميل (سامي السلاموني) على هذه العبارة قائلاً: "ليلوش يخبرنا منذ البداية أنه – عدم المؤاخذة – لا ينوي أن يقول شيئًا !". هكذا تبين لنا في وقت متأخر أن ليلوش بائع ترام يجيد الفرنسية لا أكثر. ثمة عبقري آخر هو جان لوك جودار الذي يستحيل فهم لقطة من أفلامه، وكان محبوبًا جدًا وقتها.
أفلام كثيرة جدًا عبارة عن كلام فارغ اشتهرت في تلك الفترة، ولمّعتها أقلام هؤلاء النقاد طويلي الشعر؛ منها الفيلم السخيف المتحذلق (التانجو الأخير في باريس). كان على بطلة الفيلم (ماريا شنايدر) أن تنتظر ثلاثين عامًا لتقول: " المخرج برتولوشي مريض نفسيًا ومنحرف.. لم يكن يريد سوى استغلالي جنسيًا بكل طريقة ممكنة". نفس الكلام ينطبق على السخف المسمى (سدوم) و(نقطة زبريسكي). طبعًا كانت هذه الأفلام من المقدسات في ذلك الوقت لأنها تعبر عن أزمة العصر والإنسان. لم يكن بوسعنا السفر لرؤيتها في الخارج، واليوم أرى هذه الأفلام عن طريق الكمبيوتر فيصيبني الذهول .. هل كان هناك وقتها من يحب هذا الهراء حقًا ؟؟
كان هناك فيلم شهير لأندي وارهول - عبقري مجنون آخر - يصور ناطحة السحاب (إمباير ستيت) في لقطة ثابتة لمدة ست ساعات !. ولما تساءلت عن مبرر هذا الجنون، قالوا لي إن المخرج يرمز بهذا إلى (أزمة العصر والإنسان).
فيما بعد عرفت أن بعض هؤلاء السادة المثقفين كانوا يقومون بجولات مطولة في حانات باريس ولندن، ويكتسبون خبرة ممتازة في التمييز بين نبيذ (شيانتي) والنبيذ البورجوني ، والجولات في شارع (سان دنيس) في باريس .. ثم يجلسون بسرعة ليكتبوا أي شيء.
أحيانًا يضيعون وقتهم في نشاطات أخرى: هناك ناقدة سينمائية شهيرة كانت تكتب عن مهرجان كان كل سنة، ثم عرفت من زميل لها أنها كانت تقضي فترة المهرجان كلها في التسوق من شارع الشانزليزيه، ثم تهرع إلى كان قبل انتهاء المهرجان لتجمع النشرات الخاصة بالأفلام المعروضة من ستاندات الشركات ، تكتب منها في مصر تقريرها الذي سينشر في المجلة .. وكالعادة تشرح لنا كيف أن هذه الأفلام تناقش (أزمة العصر والإنسان).
تذكرت دعابة الأب المصري الذي أرسل ولده إلى فرنسا لدراسة الطب، ثم ذهب ليزوره بعد أعوام. راح الفتى الفخور يشرح لأبيه كل ركن في باريس .. هذا هو بار كذا .. هذا هو مرقص كذا .. هذا هو ملهى كذا .. في النهاية توقفا أمام بناية فاخرة عتيقة الشكل فسأل الأب ابنه عن اسمها. لم يعرف الفتى. اتجها إلى شخص مار يسألانه عن هذه البناية فأخبرهما أنها كلية طب باريس !
الرسامون كذلك كانوا يذهبون هناك ليمرحوا، ثم يجلسون في مكاتبهم ليرسموا اسكتشات سريعة لعشاق جالسين في حدائق عامة وقد أحاط بهم الحمام، أو فتيات يجلسن بالميكروجيب حول موائد دائرية في مقاه مفتوحة، أو متسول يقلد شارلي شابلن. كان بوسعهم أن يرسموا هذا كله وهم في مكاتبهم في مصر بالطبع. لي صديق من الرسامين سيئي الحظ الذين لا يمكن أن ترسلهم المجلات التي يعملون فيها إلى أي مكان، ملأ لي وهو في بيته المتداعي بحي الحسين كراس رسم كاملاً مليئًا بإسكتشات رائعة من ميادين روما وستوكهلم ومقاهي باريس .. وكان يتوقف أحيانًا ليأخذ رشفة من الشاي أو يسحب نفسًا من دخان المعسل .. وأحيانًا كان يقضم قضمة من ساندوتش طعمية .. لهذا امتلأت السكتشات ببقع الزيت .. طلب مني لو سألني أحد عن مصدر هذه البقع أن أقول إنها بقع مايونيز أسقطتها الساقية ماريان على اللوحات ..
ثم حك رأسه مفكرًا وقال:
ـ"هناك فكرة أفضل .. قل إنها بقع وضعناها عمدًا على الرسوم لتعبر عن أزمة العصر والإنسان!"
نعم .. برغم أن الحياة تسوء وتزداد تعقيدًا فإن من حسن حظنا أن موضة (أزمة العصر والإنسان) هذه قد انتهت. صحيح أن النصب ما زال ممكنًا عن طريق الإنترنت حيث يمكنك كتابة مقال عن أي شيء خلال ثلاث دقائق، فإن أحدًا لم يعد يجرؤ على استخدام مصطلح (أزمة العصر والإنسان) هذا بعد ما اعتصره الأقدمون كليمونة . دعك من أن كتاب ذلك الجيل قد شاخوا وأصيبوا بالنقرس والروماتزم وارتفاع ضغط الدم وضيق الشرايين التاجية، فلم يعد بوسعهم الكلام عن أية أزمة سوى الأزمة القلبية. فلتعد لنا كوبًا ثانيًا من الشاي الثقيل قبل أن نفتح موضوعًا آخر.
تمت
نشر في 07 كانون الثاني 2017
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع