Facebook Pixel
لاعب الشطرنج
1254 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

مقال للكاتب أحمد خالد توفيق يحكي فيها عن الواقع المرير الذي يمر به من كرس نفسه للدراسة والعلم, ماذا يحصل معه إذا واجه بعض السفهاء من المتعلمين

نُشر في: 3 أبريل 2015

كان هذا مؤتمرًا طبيًّا فى أحد فنادق القاهرة الفاخرة.. ذلك الجو الذى حفظته تمامًا من السلالم الرخامية والنافورة إياها، والبحث المحموم عن دورة المياه التى يبدو أنهم نسوا بناءها، وستاندات شركات الأدوية، حيث يقف شباب متأنقون يكلمونك عن الكارديوستاتين.. ده دوا بيوقف القلب خلال دقيقة بالضبط يا دكتور.. عاوزين يبقى لنا شير مع حضرتك ونسمع منك فيدباك عشان نعمل التارجت بتاعنا.. المخطط ده بيقارن بين الكارديوستاتين والدوا التانى اللى ما يتسمى.. أثبتت مجلة «لانسيت» أن الكارديوستاتين نجح فى قتل كل المرضى خلال دقيقة، بينما الدوا التانى فشل أحيانًا فى قتل المرضى أو أوقف قلبهم بعد ربع ساعة.. الكارديوستاتين يتيح لك قتل المريض، ولن يكلفه سوى خمسمئة جنيه فى العلبة الواحدة. ثم ترى فتيات يقلن للقمر قم لنجلس مكانك يقمن بتسجيلك ويعطينك الحقيبة الجلدية إياها وبطاقة (المام). العاملون بالفندق يقفون فى صرامة وأوضاع رسمية وقد وضعوا ذراعهم اليسرى خلف الظهور، ويتبادلون نظرات موحية خطرة ثم يملؤون كؤوس الماء كلما فرغت. القاعة الفسيحة المظلمة وضوء البروجكتور وصوت المحاضر الناعس.. بينما على المنصة مجموعة من الأساتذة ذوى الأسماء البراقة يتبادلون الكلام همسًا فى الظلام.
رأيت صديقى جالسًا فى صف متقدم قرب المنصة يتابع ما يقال عن أحد أمراض الكبد. كان ينقل قدميه فى توتر ويوشك على الوثب من مكانه. لما انتهت المحاضرة رفع يده طالبًا الكلمة لكن الجالسين على المنصة لم يعطوه الفرصة أصلاً..
انطلق شعاع البروجكتور من جديد وظهر محاضر آخر ممل كالجحيم.. ومن جديد بدت علامات العذاب على صديقى كأن المحاضرة تلتهم أعصابه. كنت أعرف ما يجول بذهنه، وأدرك أنه لا يطيق كل ما يسمعه من أخطاء.. بعض هذه الأغلاط أعرفه، وبعضها لا أعرفه لكنى أدرك أنه موجود.
رأيت ذات مرة مقرئًا يتلو القرآن فى سرادق عزاء، وكان أخو المتوفى يجيد علوم التجويد.. ظل يضغط على أعصابه وهو يسمع التلاوة، وفى النهاية انفجر يسب المقرئ ويذكر له حشدًا من الأخطاء التى ارتكبها.. راحوا يهدئونه ويقولون له إنه بهذا يفسد جلال الموقف، لكن الفنان فيه كان صاحب الكلمة العليا فى هذه اللحظة.. لقد فعل صديقى الطبيب نفس الشىء بالضبط..
فى النهاية لم يعد يتحمل أكثر، فرأيته يسحب حقيبته ويغادر المكان وهو يبرطم.. مشيته العصبية نفسها بدت فى الضوء الخافت المنعكس من الشاشة كأنها صفعة توجه للمؤتمر والحاضرين..
للحظة، توقف المحاضر، وقد شعر بالصفعة ثم واصل الكلام بنفس الإيقاع الممل..
كنت أدرك أن صاحبى يصغى لهذا الهراء كأنه يسمع تجديفًا دينيًّا خطيرًا. لم يتحمل أكثر. والسبب هو أنه يعرف عن ذلك المرض أضعاف ما يعرفه الجالسون فى هذا المؤتمر، ولقد سمعته يحاور علماء أجانب فيفحمهم..
مع الوقت صار أقرب لفنان عصبى لا يطيق أنصاف الموهوبين ولا يتحمل الهراء.. لقد كان صاحبى لا يملك عيادة خاصة. سافر ليعمل فى الخليج بعض الوقت وجمع بعض المال، ثم قرر أن هذا يكفيه.. عاد لمصر وعكف على دراسة موضوع واحد فى أمراض الكبد.. لم يطالع غيره ولم يهتم سوى به.. ومع الوقت اقترب علمه فى ذلك الموضوع من درجة الكمال..
يثير ذهولى ما يمكن أن يصل له الإنسان عندما يكرس نفسه لفكرة واحدة..
لو لم تكن قد قرأت قصة (لاعب الشطرنج) لستيفن زفايج فأنا أنصحك بأن تقرأ قصة (لاعب الشطرنج) لستيفن زفايج. هنا عالم يقبض عليه النازيون، ويرغمونه على الحياة فى زنزانة هى الفراغ الكامل المفضى للجنون.. يبحث عن شىء يفعله أو يمضى به الوقت بلا جدوى. فى النهاية ينجح أثناء الاستجواب فى سرقة كتيب صغير.. كتيب ممل عن أدوار الشطرنج الشهيرة. يصاب بإحباط شديد ثم يقرر أن يدرس هذا الكتاب وينجح فى أن يسرق بعض لباب الخبز ليصنع منه قطع شطرنج صغيرة.. يمضى الوقت فى دراسة الأدوار.. ساعة بعد ساعة ويومًا بعد يوم.. يحول نفسه إلى شخصين أحدهما يلعب مع الآخر.. يلعب فى ذهنه أدوارًا كاملة..
فى النهاية تنتهى الحرب ويخرج هو من السجن وقد تحول إلى شطرنج حى. وتتاح له مبارزة مع بطل العالم فى الشطرنج.. يلعب ببراعة تحير بطل العالم.. وهو يستطيع أن يخمن عشر نقلات قادمة أو أكثر، لكن بطل العالم يعرف نقطة ضعفه، وهى سرعة ملله ونفاد صبره ويتعمد أن يطيل التفكير بين النقلات حتى يوشك خبير الشطرنج على الجنون.
هذا تقريبًا ما حدث لصديقى فى المؤتمر.. لقد قضى أعوامًا يتعمق فى موضوع واحد ويحلله ويناقشه.. حتى صار طبيعة أخرى فى دمه، ومع الوقت صار يصاب بذهول كلما سمع كل هذه الأخطاء وكل هذا الغباء لدى الآخرين... لهذا كان ينفجر بسهولة.
النقطة الثانية الجديرة بالاهتمام فى هذه القصة هى مزايا التفرغ.. الحقيقة أن الطبيب يجب أن يكون مستغنيًا اقتصاديا... يجب أن يكون فى أمان مادى حتى يعطى المهنة حقها، وقد كان الجراح الأمريكى العظيم ويليام هالستد ثريًّا من الأصل.. ثريًّا لدرجة أنه كان يرسل قمصانه لكيها فى فرنسا لأن (مكوجية) أمريكا لا يروقون له!! وهذا جعله يتفرغ لتطوير علم الجراحة.. وهو من ابتكر جراحة استئصال الثدى وجراحة الفتق الإربى ومبتكر جفت البعوضة. إلخ. طبعًا لا يمكن أن يكون كل طبيب فى ثراء هالستد، لكن يمكنك أن تعطيه معيشة كريمة كما فى إنجلترا، حيث لا توجد عيادات خاصة إلا فى شارع هارلى، بينما يعطى الأطباء كل ما لديهم فى المستشفيات، ولهذا يمكن القول إن إنجلترا وفرنسا أممتا الطب دون أن تكونا شيوعيتين.
صديقى بلغ الكمال فى علمه لأنه غير مشغول بمواعيد العيادة، والحاجة عفاف التى أصابها الصداع، والركض بين المستشفيات الخاصة، ويمنح ما لديه من علم للأطباء الشباب ولا يبخل به.
للحديث عن التفرغ بقية نكملها فى المقال القادم إن شاء الله.
أحمد خالد توفيق
نشر في 21 كانون الأول 2017
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع