Facebook Pixel
لوحة وفلسفة
1536 مشاهدة
0
1
Whatsapp
Facebook Share

لكلّ قطعة فنّ تأثيرٌ مختلف على كلّ إنسان، فلكلٍّ منّا رؤيته الخاصّة للوحة فيلسوف يتأمّل لملك الضوء رامبرانت

نعود الى تأملات صديقنا Walaa Nabulsi في لوحة جديدة.

لكلّ قطعة فنّ تأثيرٌ مختلف على كلّ إنسان, فالفنّ في النهاية هو التفاعل بين القطعة الفنّية وبين التُراث الفكري والحالة الوجدانية لمُتلقّي هذه القطعة عبر حواسِّه وما ينتج عن هذا التفاعل من أحاسيسٍ ومشاعر وأفكار, وبناءً على هذا التصوّر فلكلٍّ منّا رؤيته الخاصّة للوحة "فيلسوف يتأمّل" لملك الضوء رامبرانت, وقد طوّبتُه أنا ملكاً للضوء لأنّني أشعر بأنّ إضاءةً ونوراً ينبعثان من كلّ قطعة قماشٍ يرسم عليها إلى درجة أنّني أدّعي أنّني أستطيع رؤية لوحاته في حجرةٍ مُظلمة وكأنّه يرسم بألوانٍ مصنوعةٍ من موادٍ مشعّة!

اللوحة تشكّل إحدى الحلقات الثلاث لسلسلة لوحات "الفيلسوف" لرامبرانت, حيث نرى في اللوحتين الأُخريين الفيلسوف يقرأ, ونراه يتأمّل في هذه اللوحة, وكأنّ رامبرانت يقول لنا: اِقرأ مرّتين قبل أن تتأمّل لمرّة واحدة, حيث التأمّل هو عملية تفاعل لكلّ المعلومات والبيانات والأفكار الّتي يتلقّاها المرء لإخراج معلومات وبيانات وأفكار جديدة أكثر تطوّراً وفائدة, تماماً كما تتّحد ذرّة أوكسجين مع ذرّتي هيدروجين لإنتاج جزيء الماء, ولإنتاج ماءٍ كافٍ وإرواء عطشك _أو بالأحرى لتأجيله قليلاً_ عليك أن مفاعَلة الكثير والكثير من جزيئات الأوكسجين والهيدروجين, وهذا في رأيي هو مفهوم "الثقافة".

وكما نرى فإنّ الفيلسوف في اللوحة رجلٌ طاعنٌ في السنّ وهذا يرمز إلى قِدَم الفلسفة, فهي بقِدم الإنسان ذاته, أو للدقّة قدم تفكير الإنسان أو إنسان التفكير, فالفلسفة كانت موجودة بشكلٍ طبيعيّ عند الإنسان المفكّر, فهي تساؤلاته ومحاولاته الدؤوبة للإجابة على تساؤلاته تلك, فكما كانت الأصوات الجميلة موجودة في الطبيعة كانت التساؤلات موجودةً في النفس الإنسانية حتّى أتى الإغريق ووضعوا "قواعد" لهذه التساؤلات ووصّفوا الأمر وسمّوه فلسفة, فكانوا كمن صنع البيانو والكمان والعود لتخرج أصوات الطبيعة الجميلة بطريقة منظّمة و"مُصطنعة" ومتى أراد العازف على تلك الآلات, رغم أنّ هذا الأمر حصر المسألة وحصر التساؤلات تحت مصطلح وتحت طُرق قد لا تكون شاملة.

ونرى الفيلسوف يجلس إلى جانب النافذة وكأنّ رامبرانت يقول أنّ على الفيلسوف الانفتاح على فكر الآخر كي يرى العالم, لأنّه بعيداً عن النافذة لن يرى العالم ولن يراه العالم, وهنا عليه الاختيار بين التقوقع داخل كوّة الباب الضيّق المغلق على الجدار والّذي لا ندري ماذا يوجد خلفه من ظلمات أو النظر إلى النافذة الّتي يقبع الكون كلّه _بظلماته ونوره_ أمامها. وليس واضحاً هنا ما إذا كان النور يشعّ من الرجل باتّجاه النافذة أو أنّه يشعّ من النافذة باتّجاه الرجل, ولكنّني أكاد أقول أنّ النور هنا يشعّ في الاتّجاهين, فالتأمّل يحتاج إلى نورٍ ليحوّله إلى نورٍ آخر وبطريقةٍ أخرى واتّجاهٍ آخر كما يفعل القمر _المثقّف_ في بعض ليالي الشهر, ونرى في زاوية اللوحة سيّدة تقوم بإذكاء _من ذكاء؟_ نار المدفأة دلالةً على أنّ الحياة ليست فلسفة فقط, بل أيضاً عمل وتطبيق للأفكار والتأمّلات الإنسانية, فمهما كانت كميّة الغذاء والأوكسجين الّتي تحرقها خلايانا الرمادية فلن تبعث نارُها فينا الدفءَ أبداً.

ننتقل هنا إلى السلّم الّذي لا نعرف إلى أين يؤدّي لأنّ النور لا يمسح إلّا بضع درجاتٍ فيه فقط, وبعدها يقبع ظلام المجهول كما يقبع الظلام في المستقبل, فهل نحتاج إلى وقتٍ ونورِ تأمّل أكبر لنُنير بقيّة الدرجات ونصعد؟ خصوصاً أنّ الدرجات تبدو ملتفّة ولا نهائية, وهنا قد أجرؤ بعد "تأمّلي" فيها على تسميتها سلالم الإدراك الإنساني, وإدراك الإنسان لا نهائي, حيث أنّ الإدراك عمليّة مستمرّة لا تنتهي ما دام الإنسان "يصعد" ويُفكّر, وبما أنّ الإدراك عمليّة لا تنتهي فلا يوجد إدراك أو إحاطة حقيقية وفعلية لشيء, فالمعنى المعروف للإدراك هو الإحاطة بشيء بعد اللحاق به والسعي إليه, ولكنّ الإدراك عملياً هو فقط اللحاق أو السعي خلف الشيء, فمع كلّ خطوة وكلّ درجة صعوداً يزداد إدراك الإنسان لنفسه ولما حوله. فمثلاً الإيمان بالله أو بوجود خالق يتغيّر أو تتغيّر درجاته كلّما صعد المرء في هذا السلّم, فمع كلّ درجة يكتسب معطياتٍ ومعلوماتٍ جديدة تغيّر قناعاتٍ لديه, حتّى لو لم يدرك هذا في وعيه ولكن يبقى لا وعيه فاعلاً في هذه النقطة, وقد تفسّر هذه النقطة مصطلح قوّة الإيمان في بعض المعتقدات.

فالإنسان يُريد الوصول إلى الحقيقة ونسبة الشكّ لديه هي ما يُغذّي سعيه إلى هذه الحقيقة _في أيّ شيء لا في إيمانه العقائدي فقط_ فمثلاً الرياضي يتمرّن ويُضاعف تمارينه لأنّه لا زال غير موقنٍ تماماً أنّه يستطيع الفوز في المنافسة.

أقول هذا لأنّ الإيمان في رأيي _أو البحث عن أيّة حقيقة_ هو عمليّةٌ مستمرّةٌ أو طريقٌ متواصل, علينا _كأصحاب عقل_ السعي فيه "دوماً" حيث لا نهاية له, فإن توقّفنا فيه قد نجد أنفسنا يوماً ما _إن كنّا مؤمنين بدينٍ ما أو نريد زيادة اقتناعنا ب"حقيقةٍ" ما_ وقد ضلّ سعينا في هذا الإيمان فنفقده وهذه الحقيقة فتُصبح كذبة في نظرنا.

ربّما كانت هذه هي الحكمة في جميع الأديان أنّ الخالق لم يتوجّه بنفسه نحو البشرية كي تؤمن به, بل تلك لهم هامش العقل ليحاولوا هم التوصّل إليه, والمحاولة هنا هي الفيصل, فربّما أرادهم أن يسيروا في طريق العقل وطريق الإدراك وأن يتساءَلوا, فإن توقّف العقل عن التساؤل والسعي المعرفي والإدراكي سيغيب عنه كلّ أملٍ في الوصول, والتأمّل جاء من الأمل.. رسمها عام 1632

بقلم
Walaa Nabulsi


اللوحة
Rembrandt - Philosopher in Meditation

الثورة الفكرية
الثورة الفكرية
نشر في 01 نيسان 2013
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع