Facebook Pixel
رواية الخوف
903 مشاهدة
0
1
Whatsapp
Facebook Share

المكان كله لا يوحى بالارتياح على الإطلاق , الضوء شديد الخفوت, الجدران شبه المتهالكة, رائحة الرطوبة التى تزكم الأنوف, أصوات الحشرات التى دفعها الربيع للتغازل ، فى موسمها السنوى

المكان كله لا يوحى بالارتياح على الإطلاق ...
الضوء شديد الخفوت ...
الجدران شبه المتهالكة ...
رائحة الرطوبة التى تزكم الأنوف ...
أصوات الحشرات ، التى دفعها الربيع للتغازل ، فى موسمها السنوى ...
وهو لم يشعر بالراحة ، منذ جاء إلى المكان ...
ولكن الجميع قالوا : إنه سيجد علاجه هنا ...
وعليه أن ينتظر ...
ويحتمل ...
حاول أن يسترخى ، على ذلك (الشيزلونج) القديم ، الذى اهترأت أطرافه ، ولكنه لم ينجح فى هذا أبدًا ...
ترى لماذا يثق الكل فى ذلك المعالج ؟! ..
أية إنجازات يحملها تاريخه ، فى هذا المجال ؟! ...
ولماذا هذا المكان ؟!..
لماذا ؟! ...
شعر قلبه بذلك الخوف العجيب ، عندما تناهت إلى مسامعه أصوات المارة فى الخارج ، فانكمش فى مكانه ، واتسعت عيناه عن آخرهما ، ثم حاول أن يغلقهما ؛ ليقنع نفسه بأنه فى مكان آخر ...
ولكن أصوات المارة تزايدت ...
وشعر الخوف داخله تصاعد ...
وتصاعد ...
وتصاعد ...
وعلى الرغم منه ، وعلى الرغم من أن هذا غير معتاد ، وجد جسده يرتجف ، على الرغم من محاولاته التماسك ...
ثم شعر بوصول المعالج ...
وفى سرعة فتح عينيه ، يحدق فيه بشدة ...
كان شديد النحول ، غائر العينين ، شاحب الوجه ، أشعث الشعر ، يرتدى معطفًا كان يتمتع باللون الأبيض ، منذ عشر سنوات على الأقل ، وأسفله يبدو سروال من الجينز ، ضاع لونه من فرط القذارة ...
وبلا مبالاة ، جلس المعالج على مسافة نصف متر منه ، وأمسك ملفه ، وراح يقرأ أوراقه فى سرعة ، قبل أن يهز رأسه قائلًا :
ـ لم أر حالة كهذه من قبل أبدًا !! ..
غمغم هو فى أسى ، يمتزج بلمحة خجل :
ـ أعلم هذا .
هز المعالج رأسه مرة أخرى ، ومال نحوه يسأله :
ـ لماذا تخاف منهم ؟!
أجابه فى أسى :
ـ لست أدرى ...
سأله :
ـ هل تتصور أنهم سيحاولون إيذائك ؟!..
تساءل ، وهو يزداد انكماشًا :
ـ ولِمَ لا ؟! ...
هز المعالج كتفيه هذه المرة ، وهو يقول :
ـ لأنه ما من سبب لهذا .
غمغم :
ـ لديهم سبب بالتأكيد .
قال فى هدوء :
ـ ليس إن لم تمنحهم أنت إياه ...
تنهد فى توتر ، وبدا له ذلك ( الشيزلونج ) القديم ، وكأنه تحول إلى سرير من المسامير الحادة ، يؤلم ظهره ، وهو يقول :
ـ الخوف جزء من طبيعتهم أيضًا .
هز المعالج كتفيه ، وقال :
ـ الخوف هو المحرك الرئيسى لكل كائن فى الوجود ... يخاف البرد والرياح ، فيسعى للحصول على مسكن يأويه .. يخاف الجوع ، فيبحث عن طعام يأكله ... يخاف المرض ، فيسعى لملبس يقيه .. حتى عندما يحصل على كل هذا ، يخاف أن يخسره ، فيواصل عمله للحفاظ عليه .
غمغم فى توتر :
ـ لست أقصد هذا النوع من الخوف .
قال المعالج فى هدوء :
ـ لعلك تقصد ذلك الخوف السلبى ، الذى يعجز معه المرء عن العمل والكفاح ، فيخسر كل شىء ..
هز رأسه فى قوة ، قائلًا :
ـ ولا هذا أيضًا .
تراجع المعالج فى مقعده فى ضجر ، وهو يسأله :
ـ أى خوف تقصد إذن ؟!
صمت لحظات ، عاد خلالها ينظر إلى الجدران المتشققة ، والسقف الذى يكاد يسقط على رأسه ، والباب المتماسك بالكاد ، قبل أن يقول فى خفوت :
ـ الخوف من المجهول .
مط المعالج شفتيه ، وهز رأسه ، قائلًا :
ـ هذا نوع من الخوف الطبيعى .
غمغم هو فى دهشة :
ـ حقًا ؟! ... أيوجد خوف طبيعى ؟!
أجابه فى سرعة :
ـ بالتأكيد .
ثم اعتدل فى مقعده ، مضيفًا :
ـ كل مخلوق لديه مخاوف طبيعية ، هى التى تحدد مساره فى الحياة ، وقدرته على تجاوز ما يواجهه من عقبات .. والخوف من المجهول هو أكبر هذه المخاوف ؛ لأنك تخشى ما لا تدركه ، بأكثر مما تخشى ما تدركه ، والوسيلة الوحيدة ؛ لكسر الخوف من المجهول ، هى ألا يصبح مجهولًا .
سأله فى لهفة متوترة :
ـ وكيف ؟!
مال المعالج نحوه ، مجيبًا فى حزم :
ـ بأن تواجهه .
امتقع وجهه ، وتراجع يرقد مرة أخرى ، على ذلك ( الشيزلونج ) القديم ، وهو يغمغم فى خوف :
ـ نواجهه ؟!
أومأ المعالج برأسه إيجابًا مرتين ، ثم اعتدل ، قائلًا :
ـ هذا أشبه بحجرة مغلقة ، فى منزل كبير ... حجرة لم يفتحها أحد من قبل ... والكل يخشى المبادرة بمحاولة فتحها ، فتظل دومًا مغلقة ، لا يقترب منها أحد ، حتى يجرؤ شخص على فتحها يومًا ، فيجد أنها حجرة خالية ، لا خوف منها ... بل قد تكون الحجرة الوحيدة ، التى تدخل منها الشمس ..
امتقع وجهه ، وراحت أطرافه ترتجف ، وهو يقول :
ـ هل تعنى أنه من الضرورى أن أواجههم ؟!
عاد يومىء برأسه ، قائلًا :
ـ هذا هو الحل الوحيد .
اتسعت عيناه ، وهو يزداد انكماشًا على ذلك ( الشيزلونج ) القديم ، فاكتسب صوت المعالج صرامة ، وهو يقول :
ـ اخرج الآن وواجههم ... أثبت لنفسك أنك لا تخاف منهم ، وربما خافوا هم منك .
حاول أن يتخيل الفكرة ، ولكن الخوف فى أعماقه تصاعد ؛ لمجرد تصورها ...
تصاعد ...
وتصاعد ...
وتصاعد ...
على الرغم من كل محاولاته لمقاومته ، لم يستطع منع تصاعده ، فدفن وجهه بين كفيه ، وهو يهتف :
ـ لا .. لن يمكننى هذا .
رمقه المعالج بنظرة ، تجمع ما بين الدهشة والشفقة والازدراء ، قبل أن يقول :
ـ لا يوجد سبيل سوى هذا .
قالها فى صرامة شديدة ، فأبعد هو كفيه عن وجهه ، وحدق فيه ، متسائلًا فى صوت مرتجف :
ـ وماذا عن العواقب ؟!...
هز المعالج رأسه فى قوة ، وهو يقول بنفس الصرامة :
ـ لا توجد أية عواقب .
تساءل بصوت أكثر ارتجافًا :
ـ وماذا لو فشلت ؟!
أجابه المعالج ، وهو يلملم أوراق التقرير ، وكأنه قرر إنهاء جلسة العلاج :
ـ الخوف من الفشل دافع لتقدم أى كائن ، ولو أنك خشيت الفشل ، فستبذل جهدك لتفاديه ، ولتحقيق النجاح .
ثم بدا وكأنه قد فقد أعصابه فجأة ، وهو يضيف :
ـ ثم إنه لا خيار لديك ... لابد وأن تحاول .
كان قد لملم أوراق الملف ، ونهض وهو يحمله ، فحاول هو النهوض بدوره ، من ذلك ( الشيزلونج) ، وهو يغمغم :
ـ مازلت خائفًا منهم .
كان المعالج يهم بالانصراف ، عندما سمع هذه العبارة ، فالتفت إليه ، يسأله فى صرامة :
ـ لماذا ؟! ... ما الذى يمكن أن يفعلوه ؟!
تردد ، وهو يجيب :
ـ ربما طاردونى .
أجابه المعالج ، بكل ضجره :
ـ لن يفعلوا بالتأكيد .
قال فى توتر :
ـ وماذا لو حاولوا قتلى ؟!
هتف المعالج :
ـ ألم أقل لك : إننى لم أر حالة كهذه أبدًا !!!
ثم مال نحوه ، مضيفًا :
ـ لن يقتلوك حتمًا .
وانعقد حاجباه بشدة ، وهو يضيف :
ـ لأنك بالفعل ميت ... أنت شبح ... ألم تستوعب هذه الحقيقة بعد ؟! لا تخاف الأحياء .. هم من ينبغى أن يخاف منك ... حاول أن تستوعب ... أنت شبح ... شبح ...
كان قد استوعب هذه الحقيقة بالفعل ، ولكنه مازال يحتفظ فى أعماقه بتلك اللمحة الباقية من الحياة ...
بالخوف .
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
روايات مصريـة
نشر في 08 تموز 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع