Facebook Pixel
يا صديق في تلك الزحام ستتذكر نفسك
1705 مشاهدة
2
1
Whatsapp
Facebook Share

وأنت هناك، في الزحام وأنت معهم، ذبت فيهم، ضاعت ملامحك بالتدريج، لو شاهدت نفسك في صورة جماعية التقطت في الزحام لما ميزت نفسك بينهم، لقد انتميت اليهم، ربما لم تكن تقصد ذلك أو تنويه، لكنه حدث

يا صديق…

ذات يوم.. وانت في غمرة انشغالك بالركض خلف متطلبات الحياة الاستهلاكية، ورأسك مشغول كحاسبة ملآنة بالأرقام والمواعيد والتفاصيل.. وساعة يدك منصوبة على توقيت ساعة يد مدير عملك، وقلبك مربوط بأسلاك توصلك لتلك الاقساط المتبقية التي ستظل تسدد فيها طيلة عمرك، ويدك مغلولة بسلاسل تشدك كما تشد القطيع الراكض معك، وعنقك مرهونك عند بائع العقارات، ورئتاك موصولتان ببوصلة التذبذب واللاإستقرار،
.. وروحك هناك - مطبوعة على بطاقة الكريدت كارت..
ذات يوم..
وأنت هناك، في الزحام وأنت معهم، ذبت فيهم، ضاعت ملامحك بالتدريج، لو شاهدت نفسك في صورة جماعية التقطت في الزحام لما ميزت نفسك بينهم، لقد انتميت اليهم، ربما لم تكن تقصد ذلك أو تنويه، لكنه حدث…
في السنة الاولى، لم تستطع احتمال الامر - ذلك السير الحثيث بأتجاه مسير القطيع..
في السنة الثانية، تعودت الامر..
في السنة الثالثة، وحتى دون أن تشعر، صرت واحدا منهم..
وأنت هناك، ذات يوم..
وأنت تركض مثل جرذ لاهث في سراديب المترو، في سباق ماراثون الموت اليومي، وانت تحشر نفسك كالسردين المعلب في تلك التوابيت المعدنية المضيئة المسماة بالمترو.
بينما تخطو تلك الخطوة في زحام القطيع الصاعد الى المترو، سيهب عليك فجأة، ودون سابق انذار، صوت سيجعلك تتجمد في مكانك رغم أن اصول الزحام ونظامه لا يسمحان لك بذلك..
لكن هذا الصوت سيجعل الدم يتجمد في عروقك، لقد كدت تنسى أن لك دما، لكن ها هو الصوت يجعلك تكتشف أنه لا يزال يسري فيك - وها هو يجمده..
.. ستقف في مكانك. أعصابك مشدودة. وأطرافك مشلولة.
.. والصوت يهب عليك من لا تعرف أين.. ربما من كل مكان، وربما من لا مكان على الاطلاق.
ربما من ركن من أركان روحك، وربما في زاوية من زوايا المترو..
ذلك الصوت، ذات يوم، بينما أنت جرذ لاهث..
سيهب عليك، ويحاصرك، ويلقي القبض عليك ثم يقيدك…
آه.. ذلك الصوت..
إنه صوت الأذان..
سيهب عليك من مكان ما من ظلمة النفق هناك.. صوت عذب وحنون، قوي ومعبر. لكنه حزين حزين حزين…
ربما كان صوت مهاجر مثلك، مغربي او جزائري او من أي دولة تنزف ابناءها كما تفعل دولتك، اكتشف في ذات اللحظة كم سنة مرت عليه دون ان يؤذن، وهو الذي تعود الأذان منذ طفولته البعيدة في ذلك الجامع القريب من بيتهم..
.. وجلس في ركن ليؤذن كما لو كان يريد ان يتأكد من أنه هو هو..

صوت الأذان. آه صوت الاذان..
لن تعرف بالضبط كم من السنين مرت دون أن تسمعه بشكل حي.. وسيؤذيك ذلك باكثر مما تتخيله الآن..
ليس من أجل الصلاة، والمعاني المحتواة فيه فقط..
لكنه سياخذك الى ذلك الزمان البعيد، والأحلام البعيدة، والبلاد التي تربيت فيها وصارت بعيدة..
سيأخذك الى بيتكم القديم، والشوارع الأربعة، والحديقة التي فيها أنت واخوتك كنتم تلعبون..
سيأخذك الى ظهيرة دافئة. وأنت راجع من مدرستك، وحقيبتك على ظهرك، وتحمل جوعك وسؤالك الى والدتك عن الطعام الذي اعدته.. وتلك اللمة التي لن تعود.. لن تعود.. لن تعود..
صوت الأذان.
سيأخذك الى مدرستك القديمة.. وساحتها التي كانت تبدو واسعة، ومدرسيها الذين توفوا معظمهم.. ومناهجها التي تغيرت. ومديرها الذي كان مهيبا.
لو أنك تراه الآن: كئيبا رث المظهر، يجلس في ركن منزوي من المقهى..
.. وسيأخذك صوت الاذان الى اقرب اصدقائك وقتها، والى ذكرياتكما المشتركة وأحاديثكما البريئة وأحلامكما البسيطة، تخيل أن أحدا لم يعد يذكره، إلا والدته - لو كانت على قيد الحياة - هو الذي مات غريقا ذات اجازة صيف في الصف الثاني المتوسط، الآن طلبت روحه الرحمة، وذكرك به صوت الاذان، وانت في نفق المترو..
آه.. صوت الاذان..
سيأخذك الى ذلك الزمان البعيد، والاحلام البعيدة، وتلك البلاد التي عشت فيها ولكنها صارت بعيدة..
سيأخذك الى رائحة طعام والدتك، والمدفئة في الصالة، وذلك الامان الذي تحصله بسهولة بمجرد أن تذهب الى حضنها..
سيأخذك الى شخص آخر، كنته انت ذات يوم، ربما ابسط وأوضح واصدق وربما ايضا اكثر انسانية من ذلك الجرذ اللاهث الراكض في سراديب المترو الذي تحولت إليه..
صوت الأذان، سيأخذك الى أولاد الجيران، والعابكم معا، وصراخكم معا، وحماسكم معا، وشجاركم وخصامكم معا، كم واحد منهم استشهد، وكم واحد منهم فقد، وكم واحد منهم ضاع تماما في زحمة الحياة - وكم واحد منهم صار جرذا لاهثا ربما في نفس المترو الذي تركض فيه، لكنك لم تعرفه، ولم يعرفك، ربما لأن الجرذان لا تعرف بعضها بعضا..
صوت الاذان، سيأخذك الى تلك القيلولة البعيدة وأنت تتمطى في فراشك الدافئ الوثير، أقصى همومك وحيرتك يتلخص في وقوفك امام دولاب ملابسك الملآن وانت حائر في اختيارك لما يناسبك لخروجك اليومي المعتاد ..
آه… صوت الأذان… ورائحة الشاي المهيل وطعمه في فمك، والكعك قد اعدته أمك لك ولأخواتك، وطلبها منك أن تبقى لتتناوله، بينما تخرج أنت مسرعا للقاء اصدقائك.. (وتتمنى الآن لو أنك اجبتها.. وبقيت)..
صوت الأذان!، وتذكر كم مرة فاجئك وأنت في خضم معصية، وكم مرة نبت في داخلك شيء من الخجل، وكم مرة لا،..
كم مرة لم يوقظك من غفلتك، من رقدة الغافلين، وبقيت كما أنت..
.. ولكن كم مرة هبيت، ولبيت، وهرولت لتصلي..
وسيأخذك صوته لتذكر تلك الايام التي كنت تبقى تنتظره ان يأتي، وتستعد له حتى قبل ان يحين موعده، بل كم مرة ذهبت اليه حتى قبل ان يؤذن..
.. وسيجعلك تكتشف، صوت الاذان القادم من المجهول، أنك لم تنتمي لهم بالدرجة التي كنت تتوقعها، وأنك لا تزال متميزا عنهم، فيك أشياء لم تمت تماما..
.. وستكتشف أنك لا تزال بامكانك أن تبكي..
وبينما تمسح دمعتك وتصعد للمترو، ستحقد حقدا طفوليا لا حدود له على كل الذين حرموك من ان تبقى في بلدك في استقرار وثبات..
قبل أن تتوجه بالدعاء عليهم، انتبه: لقد كنا كلنا شركاء في الجريمة.

#تسعة_من_عشرة
#ضوء_في_المجرة
#أحمد_خيري_العمري
د.أحمد خيري العمري
نشر في 16 تموز 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع