Facebook Pixel
رواية الجنة
1499 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

خفق قلبه في قوة، وارتجف بين ضلوعه في لهفة، وجف حلقه في ترقب، وهو يجلس في قاعة الانتظار بالغة الأناقة والفخامة

خفق قلبه في قوة، وارتجف بين ضلوعه في لهفة، وجف حلقه في ترقب، وهو يجلس في قاعة الانتظار بالغة الأناقة والفخامة، في تلك القاعدة الفضائية، في انتظار دوره ليستقلّ ذلك الصاروخ، الذي لا يتشرف باستقلاله إلا الجنود المخلصون الذين يتمّ اختيارهم، وفقا لإخلاصهم وتفانيهم، لينعموا بعد كل ما بذلوه من جهد وعرق، بالذهاب إلى حيث يحلم الجميع.

إلى كوكب جنة المجرة..

منذ حداثته، وهو يحلم بأن يصبح من المحظوظين الذين ينالون هذا الشرف العظيم..
وخلال مراحل شبابه الأولى، راح يقرأ في نهم، كل ما كتبوه عن جنة المجرة..
ذلك الكوكب البعيد الذي تمّ كشفه في منتصف القرن الثاني والعشرين..
كوكب بكر، يُشبه مناخه الأرض كثيرا، مع فارق واحد..
نقاء الهواء، إلى درجة شبه كاملة..

ما تناقلوه عن الرواد الأوائل الذين هبطوا على ذلك الكوكب أثار خيال الجميع..
الهواء النقي..
نسبة الأكسجين العالية إلى قدر معقول، يضفي على الخلايا الكثير من الحيوية والنشاط، وهو ما يزيد من قوة الجسد ويضاعف كفاءته..
الحدائق الغنّاء التي تملأ سطح الكوكب تقريبا..
الينابيع العذبة التي لا تحوي ذرة من التلوث..
الأشجار الموسيقية..
الفاكهة الطرية المنعشة..
النباتات الرقيقة ذات الرائحة الذكية..

مكان يحلم كل مخلوق بقضاء فترة تقاعده فيه..
حتى شمسه، دافئة طوال العام..
ربيع دائم بلا منغّصات..
ويا له من كوكب أشبه بحلم جميل!
ربما لهذا أطلقوا عليه اسم "جنة المجرة"..

ولأنه جنة المجرة، أراد الكل ألا يُفسدوه، بتحويله إلى نسخة مكرّرة من الأرض.. أرادوه بحق جنة..
فالأرض في ذلك الحين، كانت قد بلغت أسوأ مرحلة في عمرها..
البشر تزايدت أعدادهم إلى حدّ مخيف..
وضاقت بهم الأرض..
وقلّت مواردها، نسبة إلى التعداد الجديد..
وتزايدت الصراعات..
واشتعلت الحروب..

وتآزرت الطبيعة مع كل هذا؛ فكثرت الفيضانات وتفجّرت البراكين وارتفعت سحب كثيفة، جعلت جو الأرض كئيبا مخيفا..
وربما لهذا كان لكشف كوكب جنة المجرة صداه الكبير في العالم أجمع..
لقد صار هو الأمل..
والطموح..
والحلم..

ولكن البشر لهم دومًا نزعاتهم الهدّامة..
فمع كل هذا، خرجت مجموعة من البشر تكذّب خبر جنة المجرة، وتصرّ على أنه مجرد وهم، تستخدمه السلطة، للسيطرة على عقول العامة، ومنحهم أملا زائفا، يساعدهم على احتمال ما يلاقونه منها، من تعنّت وجبروت وظلم وقهر وديكتاتورية.

وعلى الرغم من أن هذا لم يقنعه قط، باعتباره جنديا من جنود السلطة الذين نشأوا في حضنها، وتربّوا على مبادئها، إلا أن أعداد المتشككين راحت تتزايد وتتزايد، حتى باتت تمثّل تهديدا حقيقيا للسلطة..

وكان مِن الطبيعي والحال هكذا، أن تسعى السلطة للحفاظ على وجودها..
وفي اجتماع كبير، حضره قائد السلطة، وبصحبته حكيم السلطة الذي يطيعه الجميع، حتى القائد نفسه، وصف الحكيم المتشككين بأنهم يتبعون الشرير (شيكان)، وأنه لا بد من قمعهم وإخراسهم، قبل أن يمتد التردد إلى الكوكب كله..

وما زال هو يذكر كلماته الخالدة في ذلك اليوم :
– كلهم أتباع (شيكان)، ولا يستحقون حتى الحياة، فلا ترحموهم، ولا تشعروا نحوهم بذرة من الرحمة أو الشفقة؛ فوحدكم يا جنود السلطة تستحقون الحياة، وموتهم هو حياة لكم، فاقتلوهم حيث تجدونهم، وكلما كنتم معهم أكثر قسوة وعنف ووحشية وشراسة، نلتم المزيد من الشرف والعلو..
ولكن جسده يومها ارتجف بحق، وانتفضت كل خلية فيه، عندما قال حكيم السلطة، في نهاية حديثه:
– والأكثر إخلاصا منكم للسلطة، والأكثر قسوة مع أتباع (شيكان)، سيفوز بقضاء ما تبقى من عمره هناك، في كوكب الحلم.. في جنة المجرة.

يومها صرخ مع الباقين، بكل قطرة حماس في جسده، بأنه سيقاتل بكل ما في وسعه، للقضاء على أتباع (شيكان)..
ومنذ ذلك اليوم، بدأت الحرب..

وأولئك المتشككون حاولوا اللعب بالكلمات التي يجيدونها جيدا، والتي بها يخدعون العقول المريضة..
حاولوا أن يخدعوه ورفاقه، بأن يؤكّدوا لهم أنهم ليسوا أتباع (شيكان)، وأنهم يسعون لتحريره ورفاقه، لا للسيطرة على الأرض..

حاولوا أن يقنعوا الجميع بأنهم مضللون، وبأن حكيم السلطة يخدعهم، ليكونوا جنوده الذين يضمنون للسلطة البقاء، على الرغم من كل ما ترتكبه في حق البشر..
ولكن كل هذا لم يؤثّر فيه أو في رفاقه..
كلهم قاتلوا المتشككين بكل قوتهم..

وبكل قسوتهم..
قاتلوهم..
وعذبوا من سقط منهم في أيديهم..
أذاقوهم العذاب ألوانا..
ثم قتلوهم..
وبأكبر قدر من القسوة والوحشية..

حكيم السلطة أخبرهم، بأنه كلما بذلوا من القسوة والوحشية، أرهبوا المزيد من المتشكيين، ودفعوهم إلى التراجع..
ولهذا راحوا يزيدون من قسوتهم ووحشيتهم..
ويزيدون..
ويزيدون..

ولكن يا لأتباع (شيكان) هؤلاء!
مع كل القسوة والوحشية، لم يتوقّفوا أو يتراجعوا..
بل على العكس تماما، لقد ازدادت حماستهم، وراحوا يقاتلون..
ويقاتلون..
ويقاتلون..

وفي حسد وغيرة، شاهد رفاق له، أسرفوا في استخدام القسوة والوحشية مع المتشككين، وهم يفوزون برضاء حكيم السلطة وقائدها، وينعمون بشرف الذهاب إلى هناك..
إلى كوكب جنة المجرة..

كان يحلم باللحاق بهم يوما إلى هناك، لينعم مثلهم بحياة بلا أمراض أو متاعب أو منغصات..
ولهذا زاد من قسوة ووحشية أكثر..
وأكثر..
وأكثر..

كان كل ما يُبتغيه هو نيل رضا قائد السلطة وحكيمها..
والفوز بمتعة جنة الكون أيضا..
في كل ليلة، بعد أن يسفك أكبر كمّ من دماء المتشككين، كان يقوم بتشغيل ذلك الإعلان الهولوجرامي الذي يستعرض جمال كوكب جنة الكون ومتعه اللانهائية..
ويحلم..

وفي كل ليلة، بعد أكبر قدر من القسوة والوحشية، كان ينام مبتسما..
حالما..
متفائلا..

"حان دورك".
انتفض جسده كله في عنف، عندما قطعت تلك العبارة أفكارها، ونهض واقفا في سرعة، وهو يشد قامته في وقفة عسكرية صارمة، وقلبه يخفق على نحو أعنف وضرباته تتصاعد في قوة..
وبكل الحماس والانفعال، سار مع عدد قليل من رفاقه، عبر ذلك الممر الطويل الذي يقود إلى الصاروخ..
ومع كل خطوة يخطوها، كان قلبه يخفق بقوة أكبر..

وأخيرا صاروا داخل الصاروخ، حيث استقبلهم رجل وقور، باسم الثغر، وهو يقول:
– مرحبا بكم على متن صاروخ السلطة الذي سينقلكم إلى حيث تستحقون.. إلى جنة المجرة.

هتف الجميع في سعادة وفرح، فاتسعت ابتسامة الرجل، وهو يقول :
– الرحلة ليست بالقصيرة، ولهذا ستخضعون لحالة من السبات الصناعي، وسيتمّ إيقاظكم عندما تصلون إلى هناك.

راح جسده يرتجف في انفعال جارف، وهو يرقد داخل تلك الأسطوانة الشفافة، وتركهم يوصّلون جسده بالأسلاك والأنابيب، وهو يحلم بالاستيقاظ هناك، في جنة المجرة، ولقاء زملائه الذين سبقوه إلى هناك، وينضم إليهم، لينعم مثلهم بمتعة لا تنتهي..

بدأ يشعر بالنعاس يتسلّل إليه، وببرودة شديدة، تسري في أطرافه، وتمتدّ إلى أطراف جسده رويدا رويدا، فدفع جسده إلى الاسترخاء، ودفع جسده إلى الحلم، وراحت أطرافه تتراخى..
وتتراخى..
وتتراخى..

ثم تلاشى كل شيء من ذهنه دفعة واحدة..
لم يدرِ كم من الوقت ظل غارقا في سباته الصناعي، ولكنه مرة أخرى بدأ يستعيد شعوره بجسده رويدا رويدا..

بدأت خلاياه تستيقظ، وبدأت مشاعره تعود، ليسمع صوتا غليظا يقول في صرامة:
– هيا.. استيقظ.
أدهشه الصوت، واستنكر اللهجة، ففتح عينيه في بطء، ليدرك أنه ما زال راقدا داخل ذلك الأنبوب الشفاف الذي انفتح غطاؤه، ووقف إلى جواره ذلك الرجل الذي استقبلهم في صاروخ السلطة..
وفي بطء، غمغم :
– أين نحن؟!
أجابه الرجل في غلظة، لا تشبه صوته الهادئ الوقور القديم :
– حيث تستحق.

استعاد سيطرته على أطرافه، فدفع جسده ليجلس، وتلفت حوله في لهفة وشغف، حتى بلغت عيناه نافذة زجاجية كبيرة، و..
وانتفض جسده في قوة..
ولكن في ذعر هذه المرة..
فما رآه، عبر النافذة الزجاجية الكبيرة، لم يكن يشبه - بأي حال من الأحوال - ما ظلّ يحلم به طيلة عمره..

لم تكن هناك حدائق غنّاء، ولا أشجار موسيقية، ولا نباتات رقيقة..
بل لم يكن هناك حتى ما يوحي بالهواء النقي..
كل ما رآه هو رمال حمراء، وبراكين يتصاعد منها الدخان، وسحب داكنة كثيفة في السماء، ورجال ينقلون أحجارا كبيرة، وقد شحبت وجوههم، ونحلت أجسادهم، وتهالكت أطرافهم، ومخلوقات مخيفة مرعبة، تضرب كل مَن يتوقّف منهم، ولو لحظة واحدة، بسياط قوية ثقيلة..

ولكن ما جعل عيناه تتسعان عن آخرهما، ورعبه يبلغ ذروته، هو أنه قد ميّز وجوه من سبقوه، وسط الرجال المعذبين..
وبكل رعبه، صرخ:
– ما هذا بالضبط؟!

أجابه الرجل بنفس الغلظة والقسوة :
– ما تستحق.. إنه المكان الذي يناسب من يبذل نفسه، بكل القسوة والوحشية، إلا رضاء نزعات داخله.
صرخ :
– ولكنني فعلت كل ما طلبوه منّي.. أطعت الأوامر حرفيا.. أردت أن أحمي الأهداف العظيمة للسلطة.

حملت غلظة الرجل شيئا من السخرية، وهو يقول :
– أهداف عظيمة؟! وهل بلغت حماقتك حدا جعلك تتصوّر أنه من الممكن أن تصل إلى أهداف عظيمة، عبر أساليب خسيسة حقيرة؟!
أجاب، وهو يوشك على الانهيار:
– كنت أحارب أتباع (شيكان).

أطلق الرجل ضحكة غليظة ساخرة، وهو يقول :
– أتباع شيكان؟! وهل كنت تتصور أن (شيكان) ساذج مثلك إلى هذا الحد؟!
ثم مال نحوه، وتضاعفت قسوته، مع إضافته :
– (شيكان) من الخبث، بحيث لا يمارس لعبته قط على نحو مباشر.. إنه يختار أمثالك، ويوهمهم بأنهم يفعلون كل ما يطلبه منهم، عبر أساليب خسيسة حقيرة، من أجل أهداف عظيمة.. وعندما يتبعونه في إخلاص، يصبحون، وحتى دون أن يدركوا هذا، من أتباعه.

حدق فيه في ذهول، وهو يغمغم:
– ولكن لماذا؟!
فوجئ بملامح الرجل تتبدل، وتتحول إلى ملامح يعرفها جيدا..
ملامح (شيكان)..

وبكل رعب الدنيا، صرخ..
صرخ لتمتزج صرخته بصوت (شيكان) الساخر:
– وهل كنت ستطيعني، لو علمت أنه أنا؟!
ثم عاد يميل نحوه، مضيفا في وحشية مخيفة:
– لقد أطعت، ونلت ما تستحق.. مرحبا بك أيها الأحمق، في جحيم (شيكان).. الأبدي..

وانطلقت من حلقه ضحكة ساخرة عالية..
وانهار هو تماما، وهو يحدق مرة أخرى في ذلك الكابوس الذي يطل عليه، عبر النافذة الكبيرة..
كابوس جحيم (شيكان)..
الأبدي.
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
#قصة_كل_ليلة
روايات مصريـة
نشر في 25 أيّار 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع