Facebook Pixel
هل تؤمن بالأشباح والعفاريت؟
1178 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

لم يكد برعي يسمع السؤال من تلك الصحفية الشابة، التي ألقته عليه في اهتمام، حتى انفجر يقهقه ضاحكا، وهو يشير بكلتا يديه

"هل تؤمن بالأشباح والعفاريت؟"
لم يكد (برعي) يسمع السؤال من تلك الصحفية الشابة، التي ألقته عليه في اهتمام، حتى انفجر يقهقه ضاحكا، وهو يشير بكلتا يديه، قائلاً:
– أي أشباح وأي عفاريت يا آنسة؟! إنني تربيت أبًا عن جد، ولم أختبر مثل هذه الأشياء في حياتي قط، على الرغم من أنني أقيم وسط المقابر، منذ وعيت عيناي على الدنيا.
بدت الصحفية الشابة أكثر اهتماما، وهي تسأله:
– إذن فأنت تعتبر كل هذا مجرَّد خرافات!
هتف في حماس:
– بالتأكيد.
ثم مال نحوها، مستطردا:
– هذه أمور يتداولها العامة، تعبيرا عن خشيتهم من الموت، أما نحن الذين نحيا مع الموت، فهي لا تؤثر فينا قط.
قالت الصحفية الشابة، وهي تنهي حديثها:
– من الواضح أن لديك فلسفة خاصة.
أشار بسبَّابته، قائلاً:
– بل أنا رجل واقعي، خبر الحياة طويلاً، وليس لديّ مكان للخرافات ومخاوف الطفولة.
أنهت الصحفية حديثها وغادرته وهي تسرع الخطى حتى تخرج من منطقة المقابر، قبل غروب الشمس، فتابعها في سخرية، مغمغما:
– ويقولون إن الصحافة تتابع الأمور الهامة.
هزَّ كتفيه مستنكرا، واستنشق الهواء في قوة، ثم سعل مرتين بسبب الأتربة التي تُميز دوما هواء موسم الربيع، ودلف إلى منزله وهو ينادي على زوجته، لتعد له طعام الغداء..
ومع مهبط الليل ساد منطقة المقابر هدوء وسكون شاملان، اعتادهما (برعي) منذ طفولته، وجلس هو على باب منزله الصغير الذي يتوَّسط المقابر، يدَّخن أنفاس الشيشة في استمتاع، ويسعل بين حين وآخر مفسدا سكون وهدوء المنطقة التي خلت تماما من الناس، مع اقتراب عقارب الساعة من منتصف الليل، نهض يلملم أدواته استعدادا للنوم، و..
فجأة، تناهت تلك الأصوات إلى مسامعه..
أصوات واضحة لطفلين يمرحان وسط المقابر، وضحكاتهما البريئة تتردَّد في المكان على نحو كان يمكن أن يرقص قلبه طربا لها، لو أنه سمعه في مكان آخر، أو وقت آخر.
وبكل دهشته، سار (برعي) بين المقابر، متتبعًا أصوات الطفلين وضحكاتهما، حتى لاحا له أخيرًا وهما يعدوان في مرح، حول قبر حديث نسبيا لزوجة شابة، لقيت مصرعها في سن مبكَّرة، بعد صراع مع مرض عضَّال.
كانا يطلقان ضحكاتهما المرحة وهما يتسابقان في سعادة في هذا الوقت المتأخر، فهتف بهما، وقد حوَّل توتره إلى عصبية مفتعلة:
– ماذا تفعلان هنا؟
للوهلة الأولى، خٌيل إليه أنهما لم يسمعا نداءه، إلا أنهما سرعان ما التفتا إليه، وتطلعا نحوه في خوف، جعلهما يقتربان بعضهما من بعض، ويتلاصقان في خوف..
كانا طفلاً وطفلة، لا يتعَّدى عمرهما الخامسة، ويتشابهان إلى حد كبير، بملامحهما الجميلة البريئة، التي جعلتهما يبدوان كزهرتين يانعتين من زهور الربيع، نبتتا وسط الموت، حتى أنه شعر بالعطف والشفقة نحوهما، فاقترب منهما، وهو يقول في حنان، محاولاً تهدئتهما:
– من أنتما؟ من أين جئتما؟ وماذا تفعلان هنا؟
تراجع الطفلان في خوف، وقد التصقا ببعضهما أكثر، فواصل اقترابه في حذر، وهو يقول في حنان أكثر:
– لا تخافا مني.. اقتربا.. عندي لكما بعض الحلوى.
تراجع الطفلان في خوف أكبر، ثم افترقا فجأة، ودار كل منهما في اتجاه مخالف للآخر حول ذلك القبر الحديث نسبيا، فأسرع (برعي) نحوهما، هاتفا:
– لا تخافا.
دار حول القبر بدوره، قبل أن يتوَّقف ذاهلاً..
على الرغم من أنه قد رآهما بعينيه، وهما يدوران حول ذلك القبر، لكن الساحة الصغيرة خلفه كانت خالية تماما..
لم يكن بها أثر للصغيرين..
أو لأي شخص آخر..
ولثوانٍ تجمد (برعي) في مكانه، وشعر بأوصاله ترتجف، فبسمل وحوقل، وتلفَّت حوله أكثر من مرة، قبل أن يغمغم مضطربا:
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
دار حول القبر مرتين، فلم يجد أدنى أثر للطفلين، فبسمل وحوقل مرة أخرى، ثم ابتعد في خطوات سريعة، عائدا إلى منزله..
ولكن فجأة، سمع ضحكات الطفلين مرة أخرى..
وفي رعب لم يشعر بمثله في حياته قط، التفت يحدَّق فيهما..
كانا قد عاودا لعبهما، على النحو نفسه، وكأنهما يعيدان المشهد من بدايته، وضحكاتهما تتصاعد في مرح وسعادة..
وفي هذه المرة وقف يحَّدق فيهما في صمت..
لقد مضى أكثر من عام، منذ أودع طفل إحدى هذه المقابر، ولقد كان طفلاً واحدا، وليس طفلين..
ثم إنه لم يؤمن يوما بالأشباح والعفاريت..
دار صراع عجيب في داخله، وهو يراقب الطفلين يمرحان ويلعبان، ثم استجمع شجاعته، ليقول في صوت مرتجف:
– ماذا تريدان؟
لم يكن يأمل شيئا من سؤاله، إلا أنه فوجئ بهما يتوقفان فجأة، فور أن نطق بسؤاله، ويلتفتان إليه في صمت، وأعينهما تحمل حزنا شديدا، حار في تفسيره، فكررَّ عليهما سؤاله، وقد بدأ يتماسك نسبيا..
ودون أن ينطق أحدهما بكلمة، أشارا معا إلى ذلك القبر الحديث، ثم امتلأت أعينهما بالدموع، على نحو جعله يتساءل في حذر:
– أهي أمكما؟
علا نحيبهما فجأة، وهما يتشبثان بالقبر، ويبكيان في حرارة أدمت قلبه، فاتجه نحوها، قائلاً في حنان مشفق:
– لا تبكيان.
مع اقترابه، التفتا إليه بنفس الخوف السابق، إلا أنهما لم يدورا حول القبر هذه المرة، وإنما وثبا نحوه؛ جعلا جسد (برعي) يرتجف، من قمة رأسه، وحتى أخمص قدميه، عندما اختفيا في شاهده فجأة..
ولقد ظل جسد (برعي) يرتجف لخمس دقائق كاملة بعد اختفائهما، وعيناه المتسعتان تحدَّقان في قبر المرأة، قبل أن تنجح قدماه في أن تتحرَّكا نحو القبر، ليفحصه في خوف، امتزج بحسه المهني..
ومع الوهلة الأولى، أدرك أن يدا قد عبثت بهذا القبر، منذ فترة قريبة..
وهي يد غير محترفة حتما..
لقد حفرت وأزاحت بلاطة القبر في عجالة، ثم أعادت وضعها، وأهالت عليها التراب، دون أن تسقي الأرض بالماء كالمعتاد..
كل هذا أدركه من النظرة الأولى..
وكل هذا رواه لضابط نقطة الشرطة، فجر اليوم التالي..
وفي حضور رجال الشرطة، تم فتح قبر المرأة..
وكانت الصدمة..
جثة المرأة ترقد ساكنة هادئة، وإلى جوارهما جثتان، لطفل وطفلة، في عمر الزهور، يرتديان الثياب نفسها، التي رآها (برعي) يرتدونها، وهما يلعبان حول القبر، في الليلة السابقة..
وعندما فحص الطبيب الشرعي المرافق الجثتين، أشارت إلى أن الطفلين قد لقيا مصرعهما قتلاً بالسم، منذ ثلاثة أيام..
وضرب (برعي) كفا بكف، وهو يستعيد ذكرى الليلة الماضية، في حين بدأت التحقيقات حول واقعة القتل..
وبسرعة راحت الحقائق تتكَّشف..
فالمرأة هي أم الطفلين، وقد تم قتلها بالسم أيضا، ليصبح بعدها زوجها الحالي وصيا على ولديها من زوج سابق، لقي ربه بعد ولادتهما بقليل، وترك لها ولهما ثروة معقولة..
وكان من الطبيعي أن يكون زوج الأم هو المشتبه فيه رقم واحد، ولكن التحقيقات أثبتت أنه كان يعالج في مستشفى بمدينة الإسكندرية، خلال الأسبوع الذي تمت فيه جريمة قتل زهرتي الربيع..
وعلى الرغم من ثقة الجميع بأنه مدبر الحادث، لكن أحدا لم يستطع إثبات هذا، وبخاصة مع عدم العثور على الفاعل الأصلي، فلم يكن هناك بد من إطلاق سراح زوج الأم لعدم كفاية الأدلة..
وفي جلسته الليلية المعتادة، بدأ (برعي) يجمع ساكني المقابر من الأحياء حوله، ويروي لهم قصته، وكل منهم يضرب كفا بكف، حتى كانت تلك الليلة..
كان القمر بدرا، والناس سئمت سماع قصته، فانفضوا من حوله، وجلس هو يدخَّن شيشته كالمعتاد..
ثم لمح ذلك الرجل..
رجل نحيل، متوسَّط الطول، يسير بخطوات مضطربة وسط المقابر، وهو يهمهم بكلمات غير مفهومة..
وعندما مرَّ أمامه، تعرَّفه (برعي) على الفور..
كان زوج الأم، بشحمه ولحمه..
ولكنه كان يختلف تماما عن آخر مرة رآه فيها، قبيل الإفراج عنه مباشرة..
أيامها كان واثقا، متغطرسا، يتحَّدث بنعرة عجيبة، ويتحدى أن يثبت أي مخلوق تورَّطه في جرائم القتل..
أما هذه المرة، فقد بدا ذاهلاً، رث الثياب، يسير كما لو أنه قد فقد كل شيء في الدنيا..
وفي فضول حذر، تبعه (برعي)..
كان يسير مباشرة نحو قبر زوجته، الذي أعيد إغلاقه في إحكام..
ولم يفهم (برعي) ما يحدث، فتقدَّم أكثر في حذر، ورأى الرجل يسقط على ركبتيه أمام القبر، وهو يقول في ضراعة بائسة:
– اجعليهما ينصرفان.. إنهما يزورانني كل ليلة، وأراهما يلعبان ويلهوان، في أماكنهما المعتادة.
سرت قشعريرة في جسد (برعي)، فأرهف سمعه أكثر، والرجل يبكي في انهيار، ويلمس شاهد القبر، مواصلاً:
– رجوتهما أن يرحماني واعتذرت لهما عما فعلته، فأشارا إلى صورتك، وعلمت أنهما يطلبان مني القدوم إليك.
تحوَّلت قشعريرة (برعي) إلى غضب، جعله يرهف سمعه أكثر وأكثر، والرجل يتابع، في انهيار تام:
ـ ولقد أتيت لأعترف أمامك.. لقد استأجرت قاتلاً، واخترعت موعد العلاج لتنفيذ جريمته.. أنا أعطيته السم.. نفس السم الذي قتلتك به، عندما سافرت إلى لبنان.. أنا فعلتها، أنا قتلتك وقتلتهما.. إنني أعترف.. ولكن ارحميني.. اجعليهما يبتعدان عني..
شعر (برعي) بغضب شديد، عندما سمع تلك العبارات الأخيرة..
كان الرجل منهارا بحق، إلا أنه لم يشعر تجاهه بذرة من الشفقة..
لقد رأى أمامه وحشا مفترسا، قتل زوجته، وزهرتين بريئتين، دون ذرة من الرحمة أو الشفقة، ببرائتهما وطهارتهما..
ولقد كان يهم بالاتجاه نحوه، ليعنفه في شدة، أو يلقي القبض عليه، ويخبر الشرطة بما سمعه منه، عندما لاحظ فجأة أمرا عجيبا، جعل انتفاضة عنيفة تسري في جسده..
لقد كانت بلاطة قبر المرأة التي أحكم إغلاقها بنفسه مرفوعة..
وكان القبر مفتوحا..
وفي نفس اللحظة، التي أدرك فيها هذا، اتسعت عيناه عن آخرهما، مع مرأى الطفلين، وهما يظهران فجأة، على جانبي الرجل، الذي أصيب برعب شديد، جعله يتراجع، صارخا:
– لا.. لا.. الرحمة.
كان الطفلان يتقدَّمان نحوه في بطء، فهب واقفا على قدميه، وهو يتراجع نحو القبر المفتوح، ملوَّحا بذراعيه في ارتياع، هاتفا:
– اتركاني.. لم أعد أحتمل.. لم أعد أحتمل..
تعثرت قدمه في بلاطة القبر مع تراجعه، فاختل توازنه، ورآه (برعي) يضرب بذراعيه في الهواء، بكل رعب الدنيا، محاولاً التشبَّث بشيء ما، قبل أن يهوى جسده كله داخل القبر، ويسمع (برعي) صوت ارتطامه بأرضيته..
ومع تأوهات الرجل داخل القبر، التفت الطفلان ينظران إلى (برعي) وأعينهما تحمل براءة الدنيا كلها.. لم ينطق أحدهما كلمة واحدة، ولكن رسالتهما وصلت إليه..
وكما لو أنه مسيَّر، استدار (برعي) عائدا إلى منزله، والتقط دلوا من الماء، وكيسا من الأسمنت، وعاد به إلى قبر المرأة..
وعلى الرغم من أن الطفلين لم يغادرا مكانهما، ولم يرفعا أعينهما عنه، وقف بينهما يلقي نظرة على الرجل الذي حاول الخروج من القبر، وهو ينظر إلى جثة المرأة في رعب، مردَّدا في انهيار:
– ارحميني.. ارحميني..
وبلا أي مشاعر تقريبا، وكأنما تضغط عليه قوة تفوق إرادته، تجاهل (برعي) تأوهات الرجل، ودفع بلاطة القبر ليعيدها إلى موضعها، والرجل يصرخ فيه، في رعب لا مثيل له:
– ماذا تفعل؟! ماذا تفعل؟!
ومتجاهلاً صرخاته تماما، أغلق (برعي) القبر، وراح يدعم بلاطته بخليط سميك من الأسمنت والماء؛ ليحكم إغلاقه تماما، وصوت الرجل يتناهى إلى مسامعه ضعيفا، وهو يصرخ متوسلاً:
– أخرجني من هنا.. لا تتركني معهم.
وفي هدوء عجيب، زاد (برعي) كمية الأسمنت والرمال، حتى حجب صوت الرجل تماما، ثم تراجع في بطء، وجلس على شاهد قبر آخر، يراقب قبر المرأة في بلادة عجيبة، في حين رفع الطفلان أعينهما إليه، في نظرة امتنان عجيبة، سرت لها قشعريرة باردة أخرى في جسده..
ثم فجأة، حدث ما جعل قلبه يتوَّقف لحظة عن النبض..
لقد شاهد تلك المرأة..
شاهدها تقف على بلاطة قبرها هادئة ساكنة، تنظر إليه بنفس نظرة الامتنان، وهي تفتح ذراعيها..
وفي سعادة، اندفع الطفلان نحوها، فاحتضنتهما في حنان عجيب، قبل أن تمنحه نظرة امتنان أخرى، ثم تغوص مع ولديها، عائدة إلى قبرها..
ولساعة كاملة، ظل (برعي) جالسا على شاهد القبر الآخر، يحدَّق في قبر المرأة، دون أن ينبس ببنت شفة.
منذ تلك الليلة، واصل برعي جلسته المعتادة، أمام منزله، وسط المقابر، يدخَّن شيشته في هدوء وصمت، محاولاً إقناع عقله بنسيان ما حدث..
الشيء الوحيد الذي تغير، هو أنه لم يعد يروي شيئا لأي مخلوق..
فقط أصبح أكثر اهتماما بنسمات الربيع..
وزهور الربيع.
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
#قصة_كل_ليلة
روايات مصريـة
نشر في 05 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع