Facebook Pixel
من أول نظرة
892 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

ظلام دامس، يحيط بكل شيء ظلام يختلف عن أي ظلام عشته من قبل فيما مضى، كنت أتساءل: كيف يشعر المكفوفون؟! كنت أغلق عينيّ في قوة؛ حتى أشعر بشعورهم ولكنني، مهما أغلقت عينيّ، كنت أرى دوما لمحة من الضوء

ظلام دامس، يحيط بكل شيء..
ظلام يختلف عن أي ظلام عشته من قبل..
فيما مضى، كنت أتساءل: كيف يشعر المكفوفون؟!
كنت أغلق عينيّ في قوة؛ حتى أشعر بشعورهم..
ولكنني، ومهما أغلقت عينيّ، كنت أرى دوما لمحة من الضوء..
أو على الأقل، كنت أميّز الضوء والظلام..
فمهما أغلقت جفنيّ، كان الضوء يخترقهما؛ فأشعر بالضوء والظلام..
ولكن كل ما أراه الآن هو الظلام بلا ضوء..
ظلام..
ظلام؟؟
ظلام؟؟
فقط ظلام..
ـ كيف تشعر اليوم؟!
اخترق صوت الطبيب ما يحيط بي من ظلام، فوجدت نفسي أجيبه في عصبية لم أقصدها:
ـ وما الفارق؟! كله ظلام في ظلام.
قرأت في صوته ابتسامة، وهو يقول:
ـ الحادثة لم تكن بسيطة، ولقد قام الأطباء الجراحون بمعجزة؛ لإعادة كل شيء إلى ما كان عليه.
سألته مبهوتا:
ـ ماذا تعني بإعادة كل شيء إلى ما كان عليه؟!
أجاب في حذر:
ـ الإصابة اخترقت الفص الأمامي للمخ.
اكتفى بالجواب، واكتفيت به أنا أيضا؛ ربما لخشيتي من سماع ما هو أسوأ، ولكنه تابع، بعد وهلة من الصمت:
ـ عموما.. سنزيل الأربطة كلها اليوم، ونأمل أن يعمل كل شيء على ما يرام.
اليوم..
اليوم سيزيلون الأربطة..
اليوم ينتهي الظلام الدامس..
وأعود لتمييز الضوء..
ورؤيته..
أو أن هذا ما أتمناه وآمله..
وفي لهفة، رحت أعدّ الدقائق والثواني، حتى عاد الطبيب مع فريق الأطباء، وبدأوا في حل الأربطة.
ومع كل ثانية، كانت ضربات قلبي تتصاعد..
وتتصاعد..
وتتصاعد..
ثم كانت لمحة الضوء..
أخيرا، لم يعد الظلام دامسا..
ومن فرط الفرحة، صرخت..
صرخة قوية، أثلجت قلوب الأطباء، قبل حتى أن يرفعوا الرباط الأخير..
إنني أرى…
أرى في قوة ووضوح..
ويا للسعادة!
لن أقضى حياتى كفيفا، كما كنت أخشى..
ـ أترى جيدا؟!
ألقى الطبيب سؤاله، فهتفت:
ـ بمنتهى الوضوح.
راح يُجري بعض الاختبارات التقليدية؛ ليتأكد من وضوح وعدم ازدواجية الرؤية، ثم ربت على كتفي، قائلا بابتسامة عريضة:
ـ سنحل أربطة جرح الدماغ غدا.. حمدا لله على سلامة الرؤية.
اكتفيت بابتسامة فرحة، جعلتهم يبادلونني الابتسام، وهم ينهضون منصرفين، وتابعتهم ببصري وهم ينصرفون، وأدهشني ذلك الكسر الواضح في زجاج باب الحجرة، فتساءلت مشيرا إليه:
ـ ألا ينبغي إصلاح هذا؟!
إلتفت إليّ فريق الأطباء في دهشة، ثم التفتوا إلى حيث أشير، قبل أن يتساءل أحدهم:
ـ إصلاح ماذا؟!
عدت أشير إلى الكسر الواضح في الزجاج، مجيبا:
ـ هذا الكسر.. في الركن العلوي الأيسر من زجاج الباب.
تبادلوا نظرة دهشة، والتفتوا إليّ في قلق واضح، وأحدهم يسألني:
ـ هل تراه في وضوح؟!
أجبته في دهشة:
ـ بكل وضوح.. ألا ترونه؟!
إلتفوا حول بعضهم البعض، وراحوا يتهامسون بعض الوقت، قبل أن يقول رئيس الفريق:
ـ أعتقد أننا نحتاج إلى إعادة فحص عينيك.. سنجري فحصا شاملا صباح الغد..
لم أدرِ ما الذي أثار دهشتهم وتعجّبهم إلى هذا الحد، خصوصا أن الكسر يبدو شديد الوضوح، إلا أنني لم ألبث أن طرحت كل هذا خلف ظهري، بعد مغادرتهم الحجرة، واسترخيت على الفراش، وسرعان ما رحت في سبات عميق..
وبخلاف الليالي السابقة، كانت أحلامي كلها جميلة..
مضيئة..
مشرقة..
و..
انتفضت من نومي هلعًا، على صوت تحطم زجاج مفاجئ، فنهضت بحركة حادة، ورأيت عاملة النظافة ترتجف، وهي تهتف مذعورة:
ـ أنا آسفة.. ذراع أداة التنظيف ارتطمت بالزجاج، و… و..
أدهشني ارتباكها وذعرها، وأدهشني أكثر اعتذارها، فالزجاج الذي تتحّدث عنه مكسور بالفعل منذ أمس..
وفي نفس الموضع..
ولكنني سمعت صوت الكسر في وضوح..
ومنذ لحظات فحسب..
فكيف؟! كيف؟!
ظلّ التساؤل حائرا في رأسي، حتى وصل فريق الأطباء، لإعادة فحص بصري، و…
وكم كانت دهشة الفريق واضحة جلية..
الكل لم يفحصوا بصري، وإنما انهمكوا في فحص الزجاج المكسور..
ثم انهالت عليّ أسئلتهم، ودهشة وجوههم تفيض على ألسنتهم..
أهذا نفس الكسر، الذي رأيته أمس؟!
بنفس التكوين؟!
وفي نفس الموضع؟!
وهل كنت أراه في وضوح؟!
ثم ماذا أرى الآن؟!
عند هذا السؤال بالتحديد، توّقفت لحظات عن الإجابة..
كنت أدير بصري في وجوههم وأجسادهم، قبل أن أجيب في حذر:
ـ أراكم.
سألني كبيرهم:
ـ وعلى أية هيئة ترانا؟!
أجبت، في مزيج من الدهشة والحذر:
ـ هيئتكم المعتادة.
تبادلوا نظرات صامتة، ثم نهض كبيرهم، قائلا:
ـ كل ما نطلبه منك الآن، هو أن تخبرنا بأي شيء تراه.
غمغمت:
ـ أمر بسيط.
دلفت الممرضة إلى الحجرة في هذه اللحظة، وهي تقول:
ـ المريض في الحجرة تسعة وستين يرفض تناول الدواء.
استدارت عيناي إليها في دهشة، من الواضح أنها قد تبدّت واضحة على ملامحي؛ إذ سألني كبير الأطباء في لهفة واهتمام:
ـ ماذا ترى؟!
أجبته فيما يشبه الهمس:
ـ دماء.
سأل في لهفة أكبر:
ـ أين؟!
أشرت إلى الممرضة بطرف خفي، مجيبا بنفس الهمس:
ـ معطفها كله ملوّث بالدم، عند منطقة الصدر.
استدار ينظر إلى معطف الممرضة، قبل أن يهمس:
ـ وتراه في وضوح؟!
أومأتُ برأسي إيجابا، فابتسم وهو يعتدل، قائلا:
ـ ساعات وسأوقن من أنك ظاهرة خارقة..
لم أستوعب معنى ما قال تماما، خصوصا أن الدماء، على معطف الممرضة، كانت واضحة تماما..
وأكثر مما ينبغي..
قضيت ما تبقى من اليوم أفكّر، فيما يقصده الطبيب بمصطلح ظاهرة خارقة هذا…
وكالمعتاد أرهق الفكير ذهني، فاستسلمت للنوم، و….
وفجأة، انطلقت تلك الصرخة..
صرخة فزع مدوية، ارتجت لها ممرات المستشفى، وسادت بعدها حالة من الهرج والمرج، مع صرخات متقطعة..
وسرعان ما بلغني الخبر..
تلك الممرضة لقيت مصرعها..
أحدهم طعنها بمشرط جراحي، في قلبها مباشرة..
وعندما عثروا عليها، كانت الدماء تغرق صدر معطفها..
على نفس الكيفية التي رأيتها عليها أمس..
وبينما انقلبت الأمور في المستشفى بعنف، ما بين تحقيقات واستجوابات، زارني كبير فريق الأطباء منفردا، وقال وعلى شفتيه ابتسامة كبيرة:
ـ الآن ثبت عمليا أنك ظاهرة خارقة.
تطلّعت إلى يديه لحظات، قبل أن أسأله في توتر:
ـ بمعنى؟!
أشار بيده، مجيبا:
ـ تلك الإصابة المزدوجة، في فص مخك الأمامي، والعصب البصري في آن واحد، أنتجت أمرا خارقاُ للمألوف.. لقد صار نظرك يسبق الزمن.
مرة أخرى نظرت إلى يديه، ثم حدّقت في وجهه مندهشا، فتابع:
ـ على الرغم من التقدّم الطبي والجراحي الكبير، ما زال الفص الأمامي للمخ يمثّل لغزا، لكل الدراسين والباحثين، وإصابته لديك استحثت شيئا ما فيه.. شيء جعلك ترى الزجاج المكسور، قبل ساعات من كسره، وإصابة الممرضة، قبل ساعات من مقتلها.
التقط نفسا عميقا، قبل أن يضيف:
ـ والسؤال هو: ماذا يمكن أن نكتشف بعد هذا؟!
حدّقت في يديه مرة أخرى، قبل أن أغمغم مرتجفا:
ـ دماء.
أدهشتني إبتسامته، وهو يسألني:
ـ أين هذه المرة؟!
غمغمت بصوت أكثر ارتجافا:
ـ على يديك.
بدلا من أن يدهشه هذا، وجدته يبتسم، ويرفع مرآة صغيرة أمام وجهي، وهو يتساءل:
ـ وأين أيضا؟!
انتفض جسدي كله في عنف، وأنا أحدّق في صورتي في المرآة..
وبالتحديد في الدماء الغزيرة على عنقي..
وبكل الرعب، حدّقت في وجه كبير الأطباء، الذي قال في هدوء عجيب:
ـ إن عاجلا أو آجلا، كنت ستكشف، بتلك النظرة الخارقة، إنني من قتل الممرضة.. ولكن ما تراه الآن يثبت أنك لن تجد الوقت لهذا.. لقد رأيت المستقبل.
وارتفعت يده الممسكة بالمشرط الجراحي، مضيفا:
ـ مستقبلك.
وكان آخر ما رأيته، هو يده الممسكة بالمشرط الجراحي، وهي تهوي على عنقي..
وكان الألم قويًا..
وسريعًا..
و..
عاد الظلام..
الدامس.
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
روايات مصريـة
نشر في 05 كانون الثاني 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع