Facebook Pixel
رواية مجنون
968 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

أعوام طويلة التقى به فى جلسات العلاج، وما زال يحيا حالة الوهم التى تصور له أنه ليس مريضاً هنا فى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية ، هذا ليس بالأمر العجيب

عجيب هو هذا الرجل ...
أعوام طويلة التقى به ، فى جلسات العلاج ، وما زال يحيا حالة الوهم ، التى تصور له أنه ليس مريضًا ...
هنا فى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية ، هذا ليس بالأمر العجيب ...
الكل يتصوّر نفسه شخصًا آخر ، بخلاف هويته الحقيقية ...
فى عنبر ثلاثة ، رجل يصر على أنه الرئيس ...
وفى عنبر خمسة ، لدينا نابليون بونابرت ...
وهناك خالد بن الوليد ...
وصلاح الدين الأيوبى ...
وحتى سفاح (كرموز) ...
ولكن هذا الرجل بالذات يختلف ...
يختلف كثيرًا ...
" كيف حالك اليوم ؟! ..."
ألقى علىّ السؤال ، وهو يبتسم ابتسامة هادئة ، جعلتنى أدرك أنه ما زال داخل حالة التقمص ، فأجبته فى مودة :
ـ فى خير حال ... وأنت ؟!
أشار بيده إشارة مبهمة ، واسترخى فى مقعده :
ـ أنا أفضل ... استطعت تقبل وفاة زوجتى ، وأتعامل مع ابنى وابنتى على نحو طبيعى .
" مسكين هو ..."
صدمة مقتل زوجته زلزلت كيانه ...
إنه يتظاهر بالتماسك ، ولكننى أعلم أنه منهار داخليًا ...
أخشى ما أخشاه أن ينهار احتماله فجأة ، فيتحول إلى حالة العنف ...
لو حدث هذا ، سأضطر إلى نقله إلى عنبر الخطرين ...
أو إرساله إلى حيث يحصل على صدمة كهربية ...
فى بعض الأحيان يفلح هذا ...
فى بعض الأحيان فحسب ...
" القضية تم قيدها ضد مجهول ..."
قالها ، وهو ما زال يحاول الاسترخاء فى مقعده ...
" هل ضايقك هذا ؟! ..."
سألته فى حذر ، فلوّح بذراعه كلها ، مغمغمًا :
ـ وماذا بيدى لأفعله ؟!
لم تعجبنى إجابته ، ولا الطريقة اللامبالية ، التى نطقها بها ، فملت نحوه ، أسأله :
ـ أين كنت ، عندما قتلت زوجتك ؟!
صمت بضع لحظات :
ـ كنت أقضى السهرة مع بعض الأصدقاء .
سألته ، وأنا أتفحّص وجهه جيدًا :
ـ وهل يمكنهم الشهادة بهذا ؟!
تطّلع إلىّ لحظات ، ثم اعتدل فى مقعده :
ـ بالتأكيد .
من الواضح أنه يخفى شيئًا ، ولهذا سألته :
ـ كيف لقت زوجتك مصرعها ؟!
عاد يتطّلع إلىّ لحظات ، قبل أن يجيب ، فى توتر ملحوظ :
ـ لقد أخبرتك من قبل .
تمسكت بالهدوء ، وأنا أسأله :
ـ هل يضيرك أن تخبرنى مرة أخرى ؟!
بدا مترددًا ، فقلت أستحثه :
ـ مع تفاصيل أكثر هذه المرة .
لم يبد مرتاحًا ، وهو يفكّر طويلًا ، قبل أن يعتدل ، قائلًا :
ـ تعلم أن سارقًا فاجأها وحدها .
قلت أستحثه :
ـ ثم ؟!
بدا عصبيًا ، وهو يجيب :
ـ ثم طعنها ست عشرة طعنة .
تراجعت فى مقعدى :
ـ كان لديه الوقت الكافى إذن ؟!
مطّ شفتيه ، وهزّ كتفيه ، وهو يجيب :
ـ لست أعتقد هذا .
ويبدو أن لهجتى كانت قاسية بعض الشىء ، أو أنها حملت نبرة عدوانية ، وأنا أقول :
ـ قلت إنها ستة عشرة طلقة .
زفر زفرة متوترة ، وهزّ رأسه ، وهو ينهض قائلًا :
ـ يبدو أن فكرة علاج الحوار الودى المتبادل ، لم تكن مناسبة هذه المرة .
أشرت إليه بمعاودة الجلوس :
ـ بل أراها فكرة رائعة .
تردد بضع لحظات ، ثم عاود الجلوس ، وهو يغمغم فى عصبية :
ـ دعنا لا نتحدث عن حالة زوجتى إذن .
وافقته بإيماء من رأسى ، على الرغم من الفضول الذى يلتهمنى ؛ لمعرفة صلته بمصرع زوجته ...
إنه يخفى شيئًا ...
حتمًا يخفى شيئا ...
" ماذا عنك أنت ؟! ..."
ألقى سؤاله علىّ فى اهتمام ، فهززت كتفىّ ، مجيبًا :
ـ ماذا عنى ؟!
سأله فى شبه لهفة :
ـ هل أنت متزوّج ؟!
فكرت لحظات ، قبل أن أجيب :
ـ لست أظن هذا .
تراجع فى مقعده ، وهو يسأل دون دهشة :
ـ تظن ؟!
أشرت بيدى مجيبًا :
ـ لقد فرّت مع طفلى منذ زمن .
سألنى :
ـ وهل طلقتها بعد فرارها ؟!
صمت لحظة مفكرًا ، ثم هززت رأسى فى بطء :
ـ كلا .
لم ترق لى ابتسامته ، وهو يقول :
ـ هى ما زالت زوجتك إذن .
ضايقتنى العبارة ، فأشحت بوجهى فى توتر :
ـ من الناحية النظرية ... نعم .
سألنى فى اهتمام :
ـ وابنك ... هل رأيته بعدها ؟!
بدأت أشعر بالضيق لأسئلته ، إلا أننى أجبت ، فى شىء من الغلظة :
ـ كلا ...
لمحت شبح ابتسامة على شفتيه ، وهو يقول :
ـ ضايقك هذا كثيرًا ... أليس كذلك ؟!
أجبت دون مواربة :
ـ نعم .
قلتها فى حدة واضحة ، فتراجع فى مقعده ، واستغرق فى التفكير بضع لحظات ، قبل أن يبتسم ابتسامة زائفة ، قائلا :
ـ يبدو أن جلسات الأحاديث الودية هذه مجدية .
غمغمت بغير حماس :
ـ أعتقد هذا .
راجعت فى ذهنى ما أعرفه عن جلسات العلاج الودية ...
المريض يجلس مع الطبيب ، وكأنهما صديقان التقيا فى مقهى ...
يتحدثان ...
يتجادلان ...
أو حتى يتشاجران ...
وعلى الطبيب أن يكون يقظًا واعيًا ، لكل فعل أو كلمة ...
هذا لأنه يقوم بتحليل المريض ، من خلال هذه الجلسات ...
وعلاجه أيضًا ...
المهم أن يسأل دومًا السؤال المناسب ...
وفى الوقت المناسب ...
" هل أحببت طفولتك ؟! ... "
ألقيت عليه السؤال بغتة ، فبدت عليه الدهشة لحظة ، قبل أن يشرد ببصره ، وكأنه يستعيد ذكرى قديمة :
ـ أبى كان قاسيًا بعض الشىء .
سألته فى اهتمام :
ـ وماذا عن أمك ؟!
بدا من الواضح أن الذكريات تؤلمه هذه المرة ، وهو يغمغم :
ـ لقد تركتنا وأنا فى الثانية .
سألته :
ـ ماتت .
حاول أن يبتسم ابتسامة مضطربة ، وهو يهز رأسه ، قبل أن يجيب ، فى مرارة لم يستطع حجبها :
ـ طلقها أبى ، وتزوّجت من رجل آخر .
سألته ، وقد تضاعف اهتمامى :
ـ وهل رأيتها منذ ذلك الحين ؟!
زفر فى مرارة ، قبل أن يغمغم :
ـ مرتين فحسب .
لقد أصبت الهدف ...
إنه يكره أمه ...
هذا ما دفعه إلى قتل زوجته ...
جلسات العلاج الودية هذه مدهشة بحق ...
لقد توصلت بواسطتها إلى الحقيقة ، التى عجز الكل عن كشفها .
" دعنا نتحدث عنك قليلًا ... "
قالها فى توتر ، وكأنه يسعى للفرار من حصار أسئلتى ، فاعتدلت قائلًا :
ـ سل ما بدا لك .
مسح شعره بيده ، وهو يسأل :
ـ متى عرفت أين تقيم زوجتك ؟!
ندت منى حركة عصبية مع سؤاله ، وقلت فى حدة :
ـ وماذا يعنيك من هذا ؟!
ابتسم وهو يهز كتفيه ، مجيبًا :
ـ أنت سألتنى أسئلة شخصية ، وأجبت .
كان على حق ، مما جعلنى أبتلع توترى ، قائلًا :
ـ علمت منذ ستة أسابيع تقريبًا .
قال فى هدوء :
ـ وذهبت لزيارتها ؟!
قلت فى عصبية :
ـ كان يجب أن أرى ابنى .
بدا أكثر هدوءًا ، وهو يقول :
ـ ولكنها رفضت أن تريك إياه .
هتفت فى حدة :
ـ تلك الحقيرة ... إنه ابنى أيضًا ، وليس ابنها وحدها .
تنهّد ، وقال فى حسم :
ـ لهذا طعنتها حتى الموت ؟!
اتسعت عيناى عن آخرهما .
طعنتها ؟!...
من قال هذا ؟! ..
من ؟! ...
" انتهت الجلسة ... أعيدوه إلى عنبره الانفرادى ..."
قالها ، ونهض لينصرف ، وجاء اثنان من الممرضين الأقوياء ، كما يحدث فى كل مرة ...
كم سئمت هذا وكرهته ...
إنه ، وهم جميعًا يصرون على أننى المريض ، وأنه هو الطبيب ...
ولقد تجاهلونى تمامًا ، وأنا أحاول أن أنبههم إلى خطئهم ، بينما يجروننى جرًا إلى العنبر الذى أقيم فيه ...
عنبر المجانين ...
الخطرين .
***
(تمت بحمد الله)
بقلم : د. نبيل فاروق
روايات مصريـة
نشر في 12 كانون الثاني 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع