Facebook Pixel
إنك لا تعرف متى تأتي الريح!
772 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

إنك لا تعرف متى تأتي الريح، ولا كيف سيكون شكلها، الريح التي قد تذهب أنت معها أو يذهب معها إيمانك

عندما التقطه خفر السواحل ، كان لا يعرف بعد إن كان حيا أو ميتا.
وعندما سألوه عن اسمه ـ بما فهمه من كلامهم ، بالقليل الذي يعرفه من الإنجليزية ، تأكد من أنه حي ، وحاول أن يتذكر ما حدث ، وانفجر في بكاء بصوت عالي ، بصوت لم يكن من الممكن معرفة إن كان صاحبه ذكر أو أنثى ، طفل أو شيخ..فقط حنجرة مذبوحة ألما تأن بأعلى ما يمكن صوت..
ثم كان هناك وخزة في ذراعه..مثل وخزة الحقتة الطبية...
ثم غاب عن الوعي...
****
عندما استيقظ ، وجد صفحة بياض فارغة أمام عينيه.
لم يفهم.
بدا البياض كما لو كان صفحة ذاكرته ، وهي فارغة تماما.
شيء ما في أعماقه كان يقول له أنه لو تذكر ، فأن ذلك سيؤلمه جدا ...لذا ، دع الصفحة بيضاء...ارجع إلى النوم..
لكن بعد قليل..السؤال مرة أخرى ، ما اسمك؟
استغرق وقتا طويلا كي يتذكر ، وعندما حاول أن يتذكر ، لم يجد في باله سوى اسمين: محمد وسيف.
وانفجر يبكي بصوت عالي.
تذكر.
كانا ولديه. محمد وسيف.
تذكر كل شيء مرة واحدة..
كانا قد غرقا أمام عينيه ، بعد أن غرقت أمهما ، زوجته.
كان يمسك بهما بكل قوة ، وكانا يبكيان ، لا ، كان سيف وحده يبكي ، محمد كان صامتا تماما ،..يرتجف بشدة فقط ، بينما الأمواج تضرب الثلاثة..
على بعد أذرع كانت أمهما ، سمية.
فجأة اختفت سمية. لم يكن متأكدا إن كانت موجة قد أخذتها بعيدا أو أنها لازالت قريبة لكنه لا يراها ، صار يصرخ باسمها ، اختلطت صرخاته بصراخ الباقين.
كان سيف يبكي طيلة الوقت ، منذ أن انقلب المركب. لكن محمد بدأ يبكي عندما أخذ ينادي باسم زوجته...عندما فهم أنها ربما تكون ضاعت.
خيل له أنه سمع صوتا ينادي باسمه : باسم..وخيل له أنه رأى شيئا يتشبث بالهواء ، اندفع ليساعد سمية ، في نفس اللحظة ضربته موجة قوية ورفعته إلى الأعلى ،..لم يشعر بشيء غير الماء المالح يخترق رئتيه وهو يكاد يتجمد بردا ، ثم صعد إلى سطح الماء مجددا ، انتبه إلى أنه صار أخف...كان سيف يبكي وهو يصرخ : بابا ، بابا ..محمد..
محمد اختفى ، صار يصرخ هو ايضا ، محمد ، بكره ، نور عينه..لكن صوت البحر عالي ، ومحمد لا يرد..
مرة أخرى خيل له أنه يسمع صوتا يناديه ، بابا ، بابا..هذه المرة تمسك جدا بسيف ، لن يضيعه من يديه ، سبح باتجاه الصوت وهو يصرخ محمد محمد ، وهو متمسك بشدة بسيف ، جاءت موجعة عملاقة ، حملتهما معا ، كان واعيا جدا بأن عليه أن لا يترك سيف لحظة واحدة..حملتهما الموجة ورمتهما في عمق البحر ، لكنه كان يصارعها بكل ما أوتي من قوة كي لا تأخذ سيف منه ..لا يعرف كم دام الأمر ، لكنه وجد نفسه يرتفع إلى السطح...وكان سيف لا يزال معه..تنفس عميقا وهو يكاد يرتجف بردا..سيف لا يزال معه..على الأقل سيف لا يزال معه..
ثم انتبه لشيء...
هو كان متمسكا بشدة بسيف ، لكن سيف لم يكن كذلك.
كانت قبضته مرتخية.
صرخ مرعوبا : سيف ، سيف رد علي.
لكن سيف يبدو كما لو أنه راح في إغفاءة.
هزه بعنف .سيف. رد على يا سيف. سيف لا يرد.
حاول باسم أن يقوم بعمل إسعاف طبيعي لسيف ، كما شاهد مرارا في اليوتيوب.
لكن الأمر في البحر مختلف ، ليس سهلا قط..
وهناك دعا باسم ربه..
يا رب اترك لي سيف فقط...اترك لي سيف فقط...
سيف فقط يا رب..
لكن سيف استمر في إغفائته الأبدية..
لم يستيقظ حتى بصراخ باسم وبكائه..
لا يذكر باسم شيء بعدها ، غير عندما كانوا يسألونه عن اسمه.
*****
كل ما كان يريده باسم هو أن يحافظ عليهما ، على ولديه.
كل ما كان يريده هو أن لا يرجع البيت ذات يوم ليجده ممحيا من الوجود بالبراميل المتفجرة ...
كل ما كان يريده هو أن لا يجد نفسه يبحث بين الأنقاض عنهما.
كل مشكلته كانت هو أنه كان مثلي ومثلكم ، يحب أولاده أكثر من أي شيء آخر...
ومستعد أن يضحي من أجلهما بكل شيء..
ولكي ينقذهما من البراميل المتفجرة التي كانت مثل الروليت الروسي المصوب على رؤوس أطفاله ، كان لا بد أن يترك عمله ، بيته ، أهله ، مدينته..ويذهب إلى حيث لا براميل.
ذهب إلى حيث لا براميل ، قال في نفسه لعل البراميل تقف بعد قليل ، ويرجع إلى بيته..
لكن البراميل لم تنته ، وما انتهى تقريبا هو النقود التي كانت معه..
كل ما بقي عنده من نقود ، كان يكفي بالكاد لأجرة القارب الذي يمكن أن يمضي بهم إلى الضفة الأخرى...
لم يكن يكفي لأن يذهب وحيدا ، ويعيلهم ريثما يتمكن من لم شملهم.
كان يجب أن يذهبوا جميعا ، هو وسمية زوجته ، مع طفليهما..
كان طبعا يسمع ويرى كل ما يحدث في عرض البحر ، لكن المهرب الذي وصل له قال أن كل هذه الحوادث تحدث لأشخاص اختاروا أن تكون الأسعار أقل ما يمكن ، لذا فالخدمة التي قدمت لهم كانت مضروبة ، وتحداه بأن يجد له قاربا واحدا قد غرق أو لم يصل من فيه سالمين إلى الضفة الأخرى.
كان المبلغ أعلى فعلا من المعتاد ، وأقنعه ذلك وزوجته أن ما يقدمه المهرب يستحق ، وانه مضمون ، الغالي سعره فيه...
كل شيء كان يجري فعلا على نحو ما قال المهرب ، القارب المطاطي لم يكن فيه أكثر من العدد المتفق عليه ، وبدا جديدا أيضا ، كل منهم كان لديه ستر النجاة ، أعطى المهرب تعليماته لهم ، علم أكثر من رجل ضمن الركاب كيف يقود المركب ، ووقال لهم أن يقودوا باتجاه الجنوب...ساعتان تقريبا وسيصلون إلى جزيرة ، ويكون الأمر قم نجح...
سار كل شيء كما هو مطلوب في أول ساعة ونصف ،..ثم زادت سرعة الريح فجأة ، وعلا الموج ، ثم اصطدم القارب بشيء لم يعرف أحد ما هو، ربما كان بقايا قارب آخر ، انقلب القارب فورا..وزادت سرعة الرياح أكثر وعلا الموج أكثر..
خلال أقل من عشر دقائق..كان كل شي قد ذهب مع الريح.
*********
في الأيام الثلاثة الأولى بعد الحادث ، كان باسم لا يزال في حالة صدمة.
كان مكورا على نفسه ، ينام طيلة الوقت ليهرب من الواقع ، وعندما يصحو يئن.
في اليوم الرابع طلبوا منه معاينة بعض الجثث التي تم العثور عليها ، للتعرف عليها..
بين الجثث كان هناك سيف ، وسمية ، زوجته.
لكن محمد لم يعثروا عليه..
محمد ، ذهب مع الريح...
******
وعندما وقفوا لأداء صلاة الميت ، على أكثر من 20 غريقا تم انتشالهم...وقف باسم معهم ، لكنه لم يستطع أن يصلي.
في اللحظة التي وقف فيها للصلاة ، تذكر الصلاة ، تذكر الله ، في الأيام الثلاثة التي تلت الحادثة ، كان في حالة صدمة وهروب مما حدث...لم يصل ، لم يفكر بالصلاة ، لم يفكر حتى بالله...
لكن الآن تذكر...وهو واقف ليصلي على زوجته ، وولديه...واحد منهما ، ذهب مع الريح..
تذكر عندما دعا الله في عرض البحر أن يبقي له سيف.
كان قد نسي ذلك تماما.
والآن تذكر.
وأحس بشيء يموت في قلبه.
أو بالأحرى : أحس بأن شيئا في قلبه ، قد ذهب أيضا مع الريح...
*****
كانت أياما صعبة ..
وما قاله مع نفسه كان صعبا ، صعبا عليه..
وصعبا أن يقال...
لكنه قال ،..بالأحرى سأل ، سأل عن الله عز وجل وتعالى ...
سأل : أين كان ؟
سألها مرة بحرقة. ومرة بألم. مرة بغضب. مرة بحزن. مرة بتساؤل.
وسألها مرة بحيرة ، بضياع.
وسألها وهو يهمس.سألها وهو يبكي . وهو يئن. وهو يصرخ.
سأل ، أين كان ، عندما دعاه أن يبقي سيفا...
سأل بشك. ثم بمرارة. ثم بسخرية...
ثم كف عن السؤال.
لم يعد يسأل.
******
عندما وصل ألمانيا ، كان باسم قد قرر أن يبدأ حياة جديدة.
في الكامب ، عندما كانوا يصلون ، كانوا ينادونه ، تعال للصلاة.
كان باسم يقول إن صلاته غرقت مع محمد وسيف وأمهما.
حياته الجديدة كانت وحيدة جدا..
لقد ذهب كل شيء مع الريح ، حتى إيمانه.
*************

من السهل علينا أن نضع ساقا على أخرى ونقول أن باسم أخطأ في حساباته.
حسنا ، من زاوية الأريكة التي نجلس عليها ، ربما يكون قد أخطأ فعلا..
لكن ليس من زاوية كانت البراميل تسقط عليها..ليس من زاوية حيث الجوع يتقدم خطوة بعد أخرى ، بمجرد مرور الوقت..
ربما كان باسم مخطئا..ربما كانت هناك حلول أخرى ، ربما ، لكن لا يمكننا حقا أن نكون مكانه إلا عندما نكون مكانه..حيث الخيارات أقل ، والمخاطر أكثر..
لا يمكننا لومه ، ولا الحكم عليه ، وهناك قبل باسم ، الكثيرون ، ممن يستحقون اللوم ، ممن أوصلوا الظروف إلى ما وصلت إليه بحيث انتهى باسم ، وألاف سواه ، إلى ما انتهوا له...
يمكننا أن نضع ساقا على أخرى ونتفلسف كما نحب..
لكن ، قبل لوم باسم ، وريثما يحدث لوم للآخرين..
علينا أن نعيد النظر في تلك المفاهيم المقلوبة ، في الهرم المقلوب الذي يجعل من علاقتنا به عز وجل تقف على شعرة...
علينا أن نقلب الهرم ، نعيده إلى وضعه الطبيعي..
هل تعتقد أن الأمر لا يستحق العناء؟
لكنك لا تعرف متى تأتي الريح ، ولا كيف سيكون شكلها..
الريح التي قد تذهب أنت معها...
أو يذهب معها إيمانك...
د.أحمد خيري العمري
نشر في 01 كانون الثاني 2019
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع