Facebook Pixel
الكفر بالإنسان
1235 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

إن الكفر بالإنسان نفسه، فإن المتدين المنحرف يسئ تصور الملكات والشهوات الانسانية، وينظر إليها نظرة ازدراء، من كتاب الإسلام والطاقات المعطلة للكاتب محمد الغزالي

كتاب : الإسلام والطاقات المعطلة - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 5 ] : الكفر بالإنسان

ويتبع الكفر بالحياة وجهل وظيفة المرء فيها، الكفر بالإنسان نفسه، وبخس قيمته وتشويه حقيقته..! فإن المتدين المنحرف يسئ تصور الملكات والشهوات الانسانية، وينظر إليها نظرة ازدراء...

وقد ينحصر تقويمه للإنسان فى أنه تخلق من نطفة قذرة، وينتهى إلى جيفة مذرة ، وهو بينهما حامل بول وعذرة...!

صحيح أن الناحية الحيوانية فى الإنسان لا تخرج عن هذا النطاق. ولكن الإنسان ليس حيوانا فقط، فإن الله ـ بنفخ الروح فيه ـ أنشأه خلقا آخر.

خلقا مكرما بما أودع فى بنائه المعنوى من خصائص وأسرار...

خلقا إذا ما بلغ نماءه الصحيح، كما تنمو الشجرة من بذرتها السوية، فاق الملائكة، وحلق فى الملأ الأعلى.

وربما كانت الحملة على الإنسان كسرا للغرور الذى يشيع بين جم غفير من الناس، وكفكفة لشرور الكبر والاستعلاء التى تفسد الأخلاق الخاصة والعلاقات العامة، وتهيئة لعوامل التربية التى تستهدف تهذيب الإنسان، بإزالة ما يشينه، وتنمية ما يزينه..

والإنسان بلا ريب محتاج إلى الحساب الدائم، والرقابة الدقيقة. ولفته إلى عيوبه كى يتركها، خير لا شك فيه..!

إلا أن الأمر انقلب ـ مع المربين الأغرار ـ إلى الضد. فإنهم لم يفلحوا فى إزالة الزوائد الضارة وحسب، بل اجتاحوا الأصل نفسه .

عندما حاولوا قتل الغرور فى إنسان مغرور، بلغوا فى الجور حدا جعله يفقد الثقة بما عنده.. فذهب الكبر. ثم ذهبت أيضا عزة النفس. ثم ذهبت كذلك الشخصية الحرة المستقلة...

والعبارة الشائعة فى كتب التصوف أن المريد بين يدى شيخه، كالميت بين يدى غاسله!!

وهم يعنون بذلك الطاعة المطلقة. إلا أن هذه الطاعة الغريبة محقت الإرادة الحرة، والتفكير الحر معا.

وقرأت أن أحد الصوفية كان يمشى فى درب موحل، استطاعت أقدام المارة أن تخط على جانبه طريقا يبسا، وبينما كان الصوفى ينقل أقدامه فى الممر اليابس إذ جاء كلب يريد اجتياز الدرب. فبلغ من تواضع الصوفى ـ أو من احتقاره لنفسه ـ أن غاص بأقدامه فى الوحل، وأن أفسح الطريق الجاف للكلب، وقال له: مر بسلام!.

وهذه القصة تدون ليتعلم منها من شاء حرمة الترفع على حيوان. بل لو أحس بأنه قد تواضع فى هذا التصرف فهو فى الحقيقة متكبر ـ هكذا يقولون ـ لأن التواضع الحقيقى لا يكون مع وجود إحساس بالتنازل!!

ونحن نعد التواضع فضيلة محمودة، بيد أننا لم نجن من هذا الأسلوب فى غرسها، إلا خلق جيل موطئ الظهر لكل معتد، وتكوين أناس يحتقرون أنفسهم من الصميم، ومن ثم لا يصلحون لعمل عظيم..

لابد ـ لكى تتم رسالة الإنسان فى الحياة ـ من احترام ملكاته، وإقرار شهواته.. لابد من إنماء مواهبه العالية، وترك رغائبه الطبيعية تناسب وفق مقتضيات الفطرة السليمة... لابد من تهيئة الجو الخاص والعام كى يسلم الكيان البشرى كله من العاهات العارضة والسدود العائقة...

ربما تساءلت : ما معنى إقرار الشهوات، وتركها تنساب؟؟

والجواب : أن الحياة على ظهر الأرض لا تتصل مواكبها، ولا يطرد نشاطها، ولا يرتفع مستواها وتزدهر حضارتها إلا بوقود من هذه الشهوات المتقدة..

أترى بقاء الجنس الإنسانى مكفولا بشئ آخر وراء هذه الغريزة الكامنة فى الذكر والأنثى..؟

أترى اتساع العمران واطراد مسيره، إلا آثارا لجملة من الطبائع المستترة وراء نشاط الناس وأمانيهم...؟

غاية ما هنالك أن الدين ينظم عمل هذه الطباع القوية، ويحسن توجيهها إلى أهدافها.! فبدلا من أن تتحول مياه النهر إلى فيضان مدمر يهلك الحرث والنسل، تخرج منه فى قنوات محكمة، وترع منظمة، ومواعيد معلومة. وتتحكم فى ضبطها وتوزيعها سدود وخزانات...

وبهذه الوسيلة تتحول الصحارى إلى حقول زاهرة، وترتقب منها الجنى الحلو، من الحبوب والفواكه..!

كذلك يصنع الإسلام بالغرائز الإنسانية. إنه لا يقتلها، لأنه إن قتلها حكم على الحياة الدنيا بالفناء السريع. ولكنه يحول انطلاقها الفوضوى إلى انسياب دقيق رقيق.

والقيود التى يضعها عليها ليست لتعوق وظيفتها وإنما لضمان هذه الوظيفة، بإبعاد الشطط والغلط عنها..

وعندما حرم الإسلام أنواعا من الأطعمة، فقصده من التحريم صيانة الجسم لا مصادرة الطبيعة، وترشيد الجوع.

وعندما حرم أنواعا من الوقاع فقصده تهذيب النزوع الحيوانى لا إبادة الجنس الإنساني وإشاعة الرهبانية...

وعندما حرم أنواعا من فنون الأثرة فليس ذلك لخلق إمعات ونكرات تزحم البر والبحر، وإنما لإيلاف الجماعة البشرية أن تحيا متعاونة متعارفة لا متدابرة متناكرة... ‍‍‍

والإسلام من هذه الناحية يوصف بأنه مادى كما يوصف بأنه روحى. وليس أحد الوصفين ألصق به من الآخر، فكلاهما يومئ إلى جزء من حقيقته.

وكل محاولة لسحق الشهوات وتشتيت شملها فهى عطل فى جوهر الإنسان، وعجز عن أداء رسالته...

أما الملكات العليا فى الإنسان فمحور نشاطها أن الإنسان سيد فى هذا العالم. وعناصر سيادته تتكون من تجاوب نفسه مع هذا الكون الكبير.

وذاك سر ازدحام القرآن الكريم بالآيات التى تأمره بوضع يده على مملكته، وتحضه على إجالة النظر فيها وتغبير القدم فى أرجائها.

والمجتمع الرشيد هو الذى يهيئ للنفس مجال التنفيس عن هذه السيادة، ويتيح لها فرص القوة والكمال.

ذلك " وفى النفس البشرية استعدادان متقابلان: السلبية والإيجابية، وهما اتجاهان متعارضان، ولكنهما موجودان جنبا إلى جنب فى هذا الكيان الإنسانى العجيب الذى خلقه الله على غير مثال. وكثيرا ما يؤتى البشر من سوء توجيههم فى أحد هذين الاتجاهين أو فى كليهما.

فالدول الدكتاتورية تضخم جانب السلبية لتضمن السيطرة الكاملة على كل تصرف من تصرفات أفراد الشعب، محافظة على سلطانها الدكتاتورى.

والدول الديمقراطية تبالغ فى تضخيم جانب الإيجابية إلى درجة تبيح استغلال الفرد القوى لغيره من الناس استغلالا ظالما. كما تبيح كثيرا مما يسمونه " الحريات الشخصية " إلى حد يثير الفوضى.

وهذا أو ذاك انحراف ينشأ من فساد المعايير، ثم هو بدوره يساعد على فساد هذه المعايير.

ولقد نفذ الإسلام إلى هذين الخطين المتقابلين فصحح معيارهما بهمة فريدة تضع كل شئ فى نصابه الحق، فتبدو الأمور طبيعية منطقية لا عوج فيها ولا انحراف.

ذلك أنه أعطى الإنسان سلبية مطلقة بازاء الله، وإيجابية مطلقة بازاء قوى الكون كلها. فالله هو الخالق، وهو المتصرف، وهو المدبر، وهو الآخذ، وهو المعطى، وبيده كل شىء، وهو على كل شئ قدير.

ومن ثم فالتسليم المطلق لله هو الصواب، ولا شئ سواه يمكن أن يكون صوابا. أما الكون كله بجميع طاقاته وكنوزه وذخائره فهو مسخر للإنسان ميسر لمنافعه. (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه).

ومن ثم فموقف الإنسان منه هو موقف الإيجابية المطلقة التى لا يتعاظمها من علوه وسفله شئ ".

وهذا حق، فالأرض الذلول والنجوم المسخرات ـ وهذه أوصاف القرآن لمملكة الإنسان ـ تبين أنه منح سيطرة كاملة على هذا العالم الرحب.

ومن حقه أن يرجع البصر فى أرجائه ليتعرف مقدار ما أوتى، فينتفع بما علم، ويكشف خبء ما جهل، فإذا لم يستفد منه اليوم مهد الطريق للإفادة منه فى غد قريب أو بعيد.

سلبية مطلقة أمام الله، وإيجابية مطلقة أمام الكون.

هاتان حالتان تصطبغ بهما نفس المسلم الموصول بالقرآن، المرتبط بروحه المتأثر بإيحائه... ولقد أصيب التفكير الإسلامى بنكسة خطيرة عندما انقلبت مباحثه رأسا على عقب فأصبح تفكيرا سلبيا بالنسبة لمادة الكون إيجابيا بالنسبة لذات الله!! ما هذا الارتكاس المستغرب؟ ومن أين تجد له سنادا فى ديننا؟ وماذا أفدنا منه إلا الدمار العقلى، والروحى، والانهيار الإنساني والعمراني؟

أستطيع أن أقول بمنطق المفكر المسلم الأصيل: أن الرجل الانجليزى الذى اكتشف قوة البخار، والذى ترك عقله يسرح وراء غليان الماء، وضغط مادته المتحولة من سائل إلى غاز... هذا المفكر كان أقرب إلى فطرة الإسلام عن علمائها الذين تساءلوا: هل صفات الله عين ذاته؟ أم غير ذاته؟ أم هى لا عين ولا غير؟؟ وعقدوا لذلك مبحثا قسمهم فرقا، وخرج منه جمهورهم مخبولا لا معقولا...!! إن المجال الطبيعى لملكات الإنسان العليا هى البحث فى هذا الكون. ومن نتائج هذا البحث يتكون الإيمان بالله، وتشرب الأفئدة طرفا من عظمته. وكل ميدان افتتح للمجادلات الغيبية كان تبديدا آثما لطاقتنا العقلية. وكل عائق اصطنع لمنع العقل الإنسانى من التجوال فى الآفاق والائتناس بمجالى القدرة العليا فى الأرض والسماء، فهو عائق افتعله الجهل أو الضلال والإسلام برئ منه...!! وليست للإنسان المسلم صومعة يعتزل فيها، ويحتبس نشاطه وراء جدرانها ويعد عابدا لله بادمانه التسبيح والتحميد داخل حدودها الموحشة المنقطعة. كلا، فالعالم أجمع صومعة المسلم، والكون الكبير مسرح نشاطه.. واسمع هذا النداء: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون). إن الصلاة- وهى الكتاب الموقوت- يأذن الله بقصرها حين الضرب فى الأرض، لأن الضرب فى الأرض عبادة ترتبط بسيطرة الإنسان على الكون وهيمنته على هذه الحياة الدنيا.. ولو أن الصالحين من المسلمين عرفوا منطق كتابهم فى تقويم الإنسان وتقرير حظوظه من السيادة المادية والأدبية لانساحوا فى أنحاء المشرق والمغرب ينظرون ويكتشفون كما فعل المجاهدون من رجالات القرن الأول.. لكنهم حقروا أنفسهم وقعدوا فى أوطانهم، وتضاءل العالم كله فى أعينهم، فأصبح حركة عقيمة بين دورهم ومساجدهم.

حركة يقطعها الموت وهى أشبه ما تكون به!! على حين انطلق الأوروبيون يخترقون القفار ليعلموا ما بعدها! ويركبون البحار شهورا طوالا ليدركوا ما وراءها! كأنما هم وحدهم الذين كلفوا من عند الله بالتمكن فى أرضه، والسيطرة على خلقه!! والجدير بالذكر أن القرآن الكريم ألح على المسلمين أن يسيحوا فى الأرض وأن يسيروا فى البر والبحر، ليربوا إيمانهم، وتتسمع معارفهم، وتنصقل تجاربهم، وتزيد حصيلة الحقائق التى لديهم عن الوجود والتاريخ. (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين). (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها). (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض). والقرآن الكريم يحصى خلال الخير فى المؤمنين فيجعل السياحة من بينها: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله)، وليست السياحة للرجال فقط بل هى للنساء أيضا، ففى خصال الفضل التى ترشح طائفة من النسوة للزواج بالرسول خلق السياحة. (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا). ونحن فى مصر ننظر إلى طوائف السائحين والسائحات الوافدين إلى بلادنا نظرة دهشة، ونظن أمرهم بدعا فى خلق الله!! ذلك لأن المصريين مرضى بالإخلاد إلى أرضهم، والقبوع فى دورهم.

وما أشد جزع أحدهم لو أكرهته ضرورات العيش على النقلة من مسقط رأسه، إنه يعلن الحدثان ويشكو الأزمان... والإسلام ضد هذا الخلق الواهن، فهو يستحب أن يموت الإنسان بعيدا عن وطنه، نازحا عن داره.. إن الرجال حين تطرحهم النوى فى الأقطار القصية، فإنما ذلك دليل علو همتهم وقوة عزيمتهم... ولقد رويت عن النبى صلى الله عليه وسلم آثار تجعل موت الغربة شهادة فى سبيل الله. وهذه الآثار- وان لم تبلغ درجة الأحاديث الصحيحة- إلا أنها توافق فى دلالتها العامة ما ورد فى القرآن بشأن الهجرة. فالهجرة فريضة محتومة يوم تكون ابتعادا عن مواطن الضعف وأسبابه. وهى على كل حال باب إلى السعة والحرية، فمن أدار ظهره للهوان، وولى وجهه شطر المجهول من أرض الله يبتغى العزة والأمنة، فهو صائر إلى خير لا محالة... إن عاش ظفر بالكرامة، وإن مات فقد وقع أجره على الله. (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما).

وذاك ما أوحى إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعى أن يقول:

ما فى المقام لذى عقل وذى أدب من راحة، فدع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش فى النصب
أنى رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب دان لم يجر لم يطب
الأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت فى الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب
والتبر كالترب ملقى فى أماكنه والعود فى أرضه نوع من الحطب
فإن تغرب هذا عز مطلبه وأن تغرب ذاك عز كالذهب

ويقول الطغرائى:

حب السلامة يثنى عزم صاحبه .. عن المعالى، ويغرى المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا فى .. الأرض، أو سلما فى الجو فاعتزل
يرضى الذليل بخفض العيش مسكنة .. والعز عند رسيم الأينق الذلل
إن العلا حدثتنى وهى صادقة .. فيما تحدث أن العز فى النقل
لو أن فى شرف المأوى بلوغ منى .. لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل

لكن المسلمين أثر انحرافهم عن رسالتهم، قيد العجز أطرافهم، وسرى الخدر فى مشاعرهم وأفكارهم. فاستكانوا حيث ولدوا، وحسبوا الدنيا لا تعدو حدود القارات التى عرفوها !!

أما غيرهم فلم يخاصم الحياة، بل صالحها... ولم يجهل مكانته فيها بل وطدها... ولم يصطنع حجبا على خصائصه النفسية والفكرية، بل تمشى منبعثا من فطرة الله التى فطر الناس عليها...

فإذا هو يكتشف النصف الآخر من العالم بعد رحلات جريئة فى جنباته. وإذا هو يملأ القارات الجديدة ـ التى كان أول طارق لها ـ بما استقر فى نفسه من عقائد ومبادئ، فيها الكثير من الخطأ، والقليل من الصواب.

ما سر هذا القصور؟.. ما سر هذا التخلف؟..

إنه الكفر بالإنسان!!

الدين قوة هائلة فى قيادة البشر، ولكن ما قيمة الآلة البخارية فى قطار يضم سبعين عربة، إذا كانت هذه العربات كلها قد احترقت وتلاشت؟؟

ماذا تقود بعدئذ؟؟ وماذا يصنع الدين إذا كان موضوع عمله ـ وهو الإنسان ـ قد ذاب واستخفى.

إنى أنظر إلى الناس حولى فأجد الدين يأوى فى أنفسهم إلى خرائب بشرية لا إلى خلائق سوية!!.. وأبحث عن الإنسان الذى ينزل اليقين فى قلبه، ويتجه الخطاب الإلهى إلى عقله، فأجد هذا الإنسان قد برحت علل جسيمة به وتركته حطاما!!

ومصادر هذا الشر الجائح كثيرة، ولكن التدين الفاسد أبرزها وأعمها، لأنه يحاول باسم الله الحيلولة بين الإنسان وفطرته، ويصادر باسم الإخلاص والتقوى خصائص طبيعته...

وللطبيعة البشرية أركان عامة يشترك بنو آدم قاطبة فى أصولها. وهناك ميزات يختص بها فرد دون فرد... والإسلام يحترم هذه وتلك على سواء... ويضع لها من شرائع الحق ما ينتهى بها إلى الكمال المنشود...

من حق الإنسان أن يتألم إذا نزلت به مصيبة، ومن حقه أن يفرح إذا جاءته نعمة، فتلك طبيعته فى الحالين من غير نكير.. وعمل الدين أن يكفكف الحزن فلا يتحول قنوطا أو سخطا. وأن يكفكف الفرح فلا يصير عربدة وبطرا..

ولذلك استغربت ما روى عن أحد الصوفية إذ سأل صاحبا له عن حاله فأجابه: نصبر على البلاء، ونشكر على العطاء!

إنه احتقر هذه الإجابة وقال: تلك حال الكلاب عندنا، أما نحن فنفرح بالبلاء فرح أحدكم بالعطاء...!!

وعندى أن هذا تزوير على الطبيعة، وكذب على الفطرة. فإن رسول الله ـ وهو خير الناس ـ حزن لموت إبراهيم. ويعقوب عليه السلام حزن لضياع ولده يوسف..

فبأى منطق يطالب الناس ـ لكى يرتفع تدينهم ـ أن يفرحوا بالبلايا؟؟

إن الضغط على الطبيعة البشرية خيل لبعض الناس أن محبة الجمال فى آيات الكون نزعة تخالف التقوى...!! وليت شعرى: لمن ترسم صور الإبداع فى قوله جل اسمه: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج).

لمن يبرز الوحى الأعلى هذا المنظر الجميل؟

إنه يقول: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب).

ثم يستطرد فى وصف هذا الجمال الرائق: (ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج).

ثم إن الناس ليسوا صورا متشابهة يضعها الدين فى قالب واحد، فتخرج من مصنعه، وقد محيت الفروق الذهنية والعاطفية من بينها؟؟

إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على درجة رفيعة من التقوى، ومع ذلك ففى القضية الواحدة يلين بعضهم فى ذات الله، ويشتد بعضهم فى ذات الله فتختلف أحكامهم باختلاف الطبائع والأنظار.

وإن لم تختلف نياتهم فى مرضاة الله وطلب الحق... والجو الذى يتيح النماء الحر لأصحاب المواهب المختلفة، هو الجو الذى تنبت فيه العبقريات، وتتفتح فيه القوى الكبيرة، وتستطيع الأمم أن تستفيد فيه من أبنائها العظماء...

لقد أحزننى أن أرى نفرا من المتدينين يحسنون أركانا ونوافل من العبادات الظاهرة، ويحصون تفاصيل كثيرة لأنواع من السلوك المشروع وغير المشروع ولكن قواهم النفسية والفكرية أشبه بمناجم الذهب والحديد التى تاه عنها البشر، فهى مطمورة تحت ركام من الغفلة والخفاء..

نعم، قواهم النفسية والعقلية هامدة راكدة مقطوعة الصلة بالكون والحياة.

إن تدين هؤلاء ناقص يقينا. وحرى به أن ينهزم أمام أية عقيدة ـ ولو وثنية ـ استطاعت أن تستثير لحسابها ما فى الإنسان، من قوى وملكات...

وأحزننى، أو أفزعنى، أن أرى أناسا آخرين نمت فى نفوسهم الأهواء كما تنمو الأشواك فى حقل لا صاحب له، ثم هم بجهد قليل، من الهمهمة، والشعوذة يفرضون أنفسهم على الدين، ويزعمون أنهم سينفعون به العالمين!

إن الدين إذا لم يسر فى النفوس كما تسرى الكهرباء فى الأسلاك، فتضئ بسريانها مصابيح، وتتحرك آلات، يصبح وهما أو زعما لا تغنى فيهما العناوين والشارات...!!

----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالي
#الإسلام_والطاقات_المعطلة
كلمة حرة
نشر في 05 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع