Facebook Pixel
التحدي الثقافي في الإسلام
1871 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

يجب أن نعرف الدين من مصادره السماوية لا من تقاليد الأجناس المختلفة، وأن أفرق بين اليقينيات والظنيات، من كتاب الغزو الثقافي يمتد في ديننا

كتاب : الغزو الثقافي يمتد في فراغنا - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 5 ] التحدي الثقافي

الغزو الثقافي الذي يجتاح الأمة الإسلامية صنو للغزو العسكري الذي جاس خلال ديارها من بضعة قرون ، وأثر لابد منه للهزائم التي أصابتنا وألحقت بنا خسائر مادية ومعنوية فادحة.

والأعداء إذا شنوا غارة على بلد ما ، فهم لا ينزلون به سائحين عابرين ، ولا زائرين متفرجين. وإنما ينزلون به مستبيحين بيضته، وكاسرين شوكته ؟ فإن كانوا طلاب مغانم استنزفوا خيره ولم يدعوا لأهله إلا الفتات ، وإن كانت لهم أغراض دينية أو اجتماعية وضعوا الخطط القريبة والبعيدة لمحو شخصية الأمة وتغيير ملامحها وكما ينقل النهر من مجرى إلى مجرى آخر، تنقل الأمة رويداً رويداً من مجراها العقلي الأول إلى مجرى آخر يرسمه خصومها ويدفعونها إليه دفعاً..

والاستعمار الغربي الذي هاجم العالم الإسلامي من بضعة قرون كان مزدوج الهدف فهو طامع في خيرات الشرق الكثيرة يراها ميراثاً لا صاحِبَ له ، وهو في الوقت نفسه مثقل بضغائن قديمة ؛ يكره الإسلام كراهية شديدة ، ويضيق بكل من ينتمي إليه، ويشتد ضيقه بالعرب خاصة ، فهم قوم محمد وحملة رسالته ، وما تزال لغتهم مستودع كتابه وسنته..

فلما واتته الفرص ووضع يده على أقطارهم شرع يضرب الإسلام بقوة ومكر، ومضى دون هوَادَة يُجْهِز على فلوله الثقافية الخائرة بعد ما دَحَر جيوشه العسكرية في مواطن كثيرة..

وانطلقت طلائع الغزو الثقافي تطارد الدين المغلوب على أمره في ميادين التربية والتعليم والتشريع ، وتطوي تقاليده الاجتماعية والأدبية والاقتصادية والسياسية ، وأفلحت في تكوين أجيال تنظر إلى ماضيها كله على أنه أنقاض أو مخلفات ينبغي أن تستخفي ليحل محلها البناء الجديد الذي وضع الغرب حقيقته وصورته.

ولم تكن المعركة سهلة على أية حال ، فالمقاومة شديدة ، ورجالها مستبسلون ، وكلما ظن الغزاة أنهم انتصروا بدت لهم الغاية أبعد ، والعقبات أشد.

ولكي يعرف أبناؤنا أبعاد الموقف نذكر لهم هذه الحقائق :

( أ ) منذ بدأ الإسلام ، واليهود والنصارى حاقدون عليه ومعترضون طريقه ؟ تدبّر قوله تعالى : (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ..) . وقوله : (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم … ).

وعندما انشرحت به صدور، واستراحت إليه جماهير سعى هؤلاء. وأولئك لفض الأتباع عنه ، ولوبقوا على وثنيتهم القديمة. من أجل ذلك يقول القرآن الكريم مندّداً ومعاتباً : (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ) .

وقد كانت هذه الضغائن وراء الحروب الصليبية في العصور الوسطى ، وهي كذلك وراء الحروب الاستعمارية في العصر الحديث.

ولعل السيد جمال الدين الأفغاني من أوائل الذين كشفوا هذه النيّات السوداء ، " يقول لوثروب ستودارد " : إن خلاصة تعاليم جمال الدين الأفغاني تنحصر في أن الغرب مناهض للشرق، وأن الروح الصليبية لم تَبْرَح كامنة في الصدور كما كانت متأجّجة في قلب بطرس الناسك، ولم يزل التعصّب كامناً في عناصرها. والغرب ما يزال يحاول بكل الوسائل القضاء على أية حركة يحاول بها المسلمون إصلاح أمورهم .

نقول : وقد انضمت الشيوعية إلى الصليبية في اعتراض الصحوة الإسلامية ومؤازرة الغزو الثقافي وسَدّ الطرق كلها في وجوه المؤمنين الأحرار؛ فالخصوم يكثرون ولا يقلون ، والساحة تتسع ولا تضيق.

( ب ) ولعل الهدف الأول للغزو الثقافي إصابة العلوم الدينية في مقاتلها بعد إسقاطها عن مكانتها التقليدية . وترتبط بعلوم الدين علوم اللغة وفنون الأدب ، فيجب أن تتضعضع هي الأخرى !!

ولما كان الإسلام عقيدة وشريعة وتربية وتقاليد ، وكانت الثقافة المصاحبة لهذا كله متشعبة متكاثرة ، فإن الاستعمار قدر لتدمير هذه الثقافة أمداً يتراوح بين نصف قرن، وقرن كامل.

وهو يستطيع خلال هذا الأمد المتطاول خلق جيل زاهد في الانتماء لدينه ، غير متحمس له ولا حريص عليه ، يهاب الأديان الأخرى ولا يهاب عقيدته ، ويفضل الألسنة الأخرى ويستهين بلغته ، ويكرم زعماء العالم قديماً وحديثاً ، أما رجالات الإسلام فليسوا أهلاً لاكتراثه! وربما نال منهم وأزرى عليهم !!

ولنعترف بأن أعداداً من المرتدّين سقطت في هذه الفخاخ؛ فقدت تَسْمع من يطلب تَرْك الصلاة أو الصيام حتى لا يضعف الإنتاج! وقد تَسْمَع مَن يشغب علانية على شرائع الحدود والقصاص ! وقدت تَسْمَع من يرفض الولاء للدين ويقدم عليه الانتماء القومي أو الوطني ! وقد تسمع مَن يدعو إلى العلمانية ! أو مَن يرى المخادنة أحسن من الزواج !.

وكان يستحيل أمس أن تقبل الجماهير معشار هذا الزيغ بَيْد أن الغُزاةَ الدهاة عرضوها للسنين العجاف والأزمات العضوض فجرت تلهث وراء لقمة الخبز ، وقد يشغلونها بالملاهي والتسالي فيكون سماع أخبار الكرة أهَمّ من أنباء المجاهدين في أفغانستان أو الفليبين..

إن الغزو الثقافي نجح في جعل قيمة مكان قيمة ، واهتمام بدل اهتمام..

ومع ضياع المعرفة الدينية وسقوط رتبتها دخل الدين كله في محنة هائلة ، والحق يقال أن حماة الإسلام يقفون عند آخر خطوط الدفاع والمستقبل في كف القضاء..

( ج ) ذاك بالنسبة إلى ثقافتنا التقليدية. أما بالنسبة إلى العلم العام الذي لا وطن له ، فمعروف أن حصيلتنا منه كانت فوق الصفر بقليل ، فلما احتل الغرب ديارنا أخذ يعطينا منه بقدر ما نعطي من أنفسنا ! العلم مدون بلغاته وبحوثه مزدهرة فى ربوعه، ومراحل التطبيق العملي والإنتاج الصناعي تتم فى معامله وتحت إشرافه ، وقد ملأ البر والبحر والجو بتفوقه ، فإذا رغبنا فلنذهب إليه ولنتجاوب معه.. وإذا كان يضع فمنا على الصنبور فإن المحبس بين أصابعه إن شاء فتح وإن شاء أغلق ومَن أبَى فلا يلومَنّ إلا نفسَه...

وهكذا استطاع المنتصر أن يجرَّ المسلمين وراءه ، وأن يفرض عليهم صبغته..

وعندما أتعمَّق هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي ، وأتساءل عما أصابنا ؟ أجد الجواب العدل : لقد كنا للهزيمة أهلاً ، وما كان يمكن أن يقع إلا ما وقع بعد الخيانات العقلية والخلقية التي لفت حياتنا فى الأعصار الأخيرة.

لقد تكاثرت أوزار التخلّف المادي والأدبي على ظهر الأمة المسكينة حتى قصمته ولم يكن ثَمّ بصيص نور يُومِض بهداية أو نَصَفة أو مَرْحَمة ، كان الحاكم الجائر ينبت في منصبه فيقال في تسويغ وجوده : (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء …… ). أما أن المناصب أمانات ، وأن ملأها يتم بالاختيار النزيه فذاك حديث لا يخطر ببال !!.

وكان من يقدر على انتهاب ثروة ضخمة يأخذها في صمت ، أو تتطلع الأنظار إليه بِوَجَل ، لو تجرّأ امرؤٌ فذكر حدود الحلال والحرام ، قيل له : صَه !! (…… إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) .. وصاح شاعر " مؤمن " يقول :

مَلِكُ الملوكِ إذا وهَبْ لا تسألنّ عن السّبَبْ
اللّهُ يعطِي مَن يشاء فقِفَنْ على حَدّ الأدَبْ

ونشأ عن استقرار هذا الفكر تسليم بالحظوظ العمياء والتفاوت الظالم ، وعدّ ذلك هو الوضع الطبيعي فما جاء على أصله لا يسأل عن علته ! أما التساؤل : مِن أين لك هذا ؟ سواء كان هذا مالاً أو حكما فإنه سؤال مردود على صاحبه ، وقد يكون سبباً فى اخترام أجله !.

إن المعرفة الدينية في ميداني الحكم والمال لم تكن تنبع من كتاب الله وسًنّة رسوله وتقاليد الخلافة الراشدة ، بل كانت تنبع من طبائع الأثرة والهوى التي استفحلت في الشرق الإسلامي ، وكانت لها ظلال كئيبة خلال قرون طويلة..

وكانت هذه اللوثة موجودة كذلك يا الغرب الصليبي فقد حدث حوار بين قيصر روسيا وجمال الدين الأفغاني ، سأله أولا عن آرائه في الشرق ثم سأله عن سبب خلافه مع الشاه ؟

قال جمال الدين: إنها الحكومة الشورية أدعو إليها ولا يراها.
قال القيصر: الحق مع الشاه إذ كيف يرضى ملك أن يتحكم فيه فلاّحُو مملكته ؟
قال جمال الدين : أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك أن تكون الألوف المؤلفة من رعاياه أصدقاء له بدل أن يكونوا أعداء يتربصون به الدوائر.

فلم يعجب القيصر هذا الحديث ، وغادر المجلس علامَة الإذن لجمال الدين أن ينصرف..

ولكن أقطار الغرب لم يطل صبرها على هذا الغرور، فقامت في القرن السابع عشر ثورة في إنجلترا أطاحت بملك من طراز القيصر، وتبعتها فرنسا في القرن الثامن عشر، أما روسيا نفسها فإن القيصرية طاحت فيها أوائل القرن العشرين.

وجمال الدين ومحمد عبده ورشيد رضا كانوا ينصرون الإسلام حين يذكِّرون بالشّورَى، وكانوا يستمدّون من تعاليمه لإصلاح ما ساد عصرهم من اعوجاج ، بل لقد كانوا يعالنون بسلفيتهم إذ أن السلفية فيما يعلم أولو الألباب شيء آخر فوق إحفاء الشوارب !

إن الإسلام يضيره أشَدّ الضير أن تختص أرضه وحدها بأجرأ الناس على اغتيال المال العام والخاص ، وأجرأ الناس على تدويخ الشعوب وإذلال من أعز الله وإعزاز من أذلّ الله.

وسيقال : طبيعة نظمه أوحت بذلك أو سكتت عليه. وهذه في نظرى أقبح فِرْيَة بعد الشِّرْك بالله..

وهناك سبب آخر أعان الغزو الثقافي على النجاح هو مَدُّ خيمة الغيبيات لتشمل مساحات واسعة من عالم الشهادة حتى كأن الدين حارس طبيعي للطلسمات والخرافات أو كأنه خصم لدود للمنطق العلمي ! وقد شاع هذا المسلك في مقولات شتى..

كنت أقرأ كتاباً عن مطالع الأهِلّة وأوقات الصلوات لفقيه مالكي ، فمرَرْتُ بقضيّة أثارها المؤلف ؛ رجل صلى الظهرَ فى مكة ، وكان من أهل الخَطْوَة (!) أي يتنقل بين الأجواء بسرعة البرق.

قال المؤلف : فوثب بعد صلاته إلى طرابلس ـ في ليبيا ـ والظهر لمّا يُؤَذَّن له بعد هناك ، هل يعيذ الصلاة ؟ أم تكفيه صلاتُه الأولى ؟

وليس يعنيني أن يكون هذا الكلام حقاً أم باطلاً ، إنما الذي يعنيني أنك إذا أنكرت هذه القضية. يقول لك شخص هائج : ماذا؟ أتنكر القُدْرَة الإلهيّة ؟ إن هذا كفر !!

وهذا الخيال أو الخبال يرجع إلى مسألة كلامية ، هل العلاقة بين السبب والمسبب عقلية أم عادية ؟. ولمسائل علم الكلام انحرافات معقدة في مسالك أمتنا ومعارفها..

وينضم إلى ذلك ما يعتبر تلاعباً بالألفاظ وتبادلا للتهم ، فالمسلمون مجمعون على أن الإنسان مسئول عن أفعاله ، لكن هذا المعنى البديه صِيغَ في عبارة نابية ، ابتدعها المعتزلة ابتداعاً هي: الإنسان خالق أفعاله ! والفلاح المسئول عن زرعه لا يقال فيه خالق زرعه ! والبناء الذي شَادَ قصراً لا يقال عنه خالق القصر. وكان يمكن أن تُهْجَر هذه الصيغة إلى صيغة أكْيَسَ وألطف.

لكن سرعان ما احتدمت معركة رهيبة ظلت عدة قرون تَمَسّك فيها أهلُ السنّة بأن الله خالق الأفعال الجبرية والاختيارية..

وخرج العوائمّ من المعركة وهم يَروْن ألا قدرة لهم ولا إرادة ولا حول ولا قوة.

وكان هذا التلاعب بالألفاظ من وراء تضليل أجيال غفيرة ، وتمويت أمة كبيرة.

وقد بذلت مدرسة المنار جهوداً متصلة لتصحيح المعرفة الدينية ، فحاربت التقليد المذهبي الجامد كما حاربت الأحاديث الضعيفة وضبطت داخل الهداية القرآنية الأحاديث الصحاح ، وطاردت قضايا كلامية، وتضليلات سياسية.. واستطاع محمد رشيد رضا أن يسوق توجيهات محمد عبده وسط حشد مِن الآثار المحررة.

بَيْدَ أن قوى شريرة من الداخل والخارج اعترضت هذا الخير الدافق.

ومن هنا قدر الغزو الثقافي على بلبلة الجماعة الإسلامية وتبديد طاقاتها في غير طائل فإن كثيراً مِمّن أحبّ الإسلام وحَنّ إلى العودة إليه قدم للإسلام أو قدم إليه الإسلام جملة معارف من عهود الاضمحلال ومن أيام الهزائم الفكرية والخلقية لأمتنا خلال مسارها الطويل ، فلم يستطع معالجة الانحراف في دنيا المال والحكم إلا بالعِظات..

وضمّ العالم الإسلامي في أرجائه الرحبة أبخل أغنياء وأخبث ساسة وسكت رجال العلم الديني التقليديون ! ترى ما أسكتهم ؟ ليس لديهم ما يقولون ليسدّوا الطريق أمام التحدّي الثقافي القادم من الخارج.

وَدَعْكَ من ميادين الاقتصاد والسياسة ومن عالمَ الإنتاج والإدارة وتحريك الحياة والأحياء ! ولنذهب إلى المحاريب ، وتزكية النفوس وترقيق القلوب وبناء الأخلاق وتوفير الباقيات الصالحات.. إنني بعد تأمل طويل وجدت ثروتنا من هذه المعاني الغالية قليلة ، وزادنا غير كاف لمغالبة حضارة ساحرة الإغراء كثيرة الأحابيل فما العمل ؟

العمل إعادة النظر فى ثقافتنا كلها ، أعني ثقافتنا الذاتية لننبذ منها ما ليس له رصيد من هداية الله.. وإعادة النظر فى العلوم الكونية والإنسانية التي تموج بها الأرض لنقتبس منها ما نحتاج إليه على عجل.

ولذلك تفصيل ومنهاج..

في الإنسان غرائز دنيا تشده إلى تحت، وفيه خصائص كريمة ندفعه إلى فوق ، فإذا كانت هذه الخصائص أشد قوة ذهبت بالإنسان صعداً إلى آفاق الحق والخير والجمال.. وإن كانت مساوية لغريمتها ذهب السالب في الموجب وبقي المرء موضعه.. وإن كانت أضعف منها أخْلَد إلى الأرض واتّبع هواه ، فلم تره إلا مبطلاً شريراً دميم الروح. والذي أقصده أن تحصيل الكمال يحتاج إلى معاناة علمية وخلقية.. فالكريم لن يكون كريماً إلا إذا قهر الشُّحّ ، والشجاع لا يكون شجاعاً إلا إذا هَزَم بواعث الخوف..

والإسلام الذي ننتمي إليه سمع وطاعة لله تباركت أسماؤه ، ولابد أن يعتمد على معرفة شديدة الوضوح ، وخضوع لا يتخلف في موطن ، واستجابة عاجلة لكل نداء..

ولا يتم شيء من هذا إلا إذا كانت المشاعر جَيّاشة ، والبواعث حية، والنفس مكتملة القوى في إرضاء الله.

وأيّ منصف يتدبر القرآن الكريم في طول السور وعرضها يشعر بأن الإيمان الذي يصنعه هو إيمان الرغبة والرهبة ، والتبتل والتوكل ، والصبر والشكر والاستناد إلى الله والاستمداد منه ، والحب والبغض فيه والسلام أو الحرب من أجله.. إيمان يغمر المحاريب بالخشية والميادين بالجرأة ويتحرك دون توقف لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وسَوْق الحياة وما فيها لإعلاء كلمة الله.

وكان المفروض في ثقافتنا الذاتية أن علمي الكلام والتصوّف يشرفان على هذا الجانب ويقومان بتصوير العقائد ، وتأسيس العناصر التي تجعل الإيمان يخالط القلوب ويوجّه النفوس.

بَيْدَ أن ملابسات شتى أحاطت بهذين العلمين ، فإذا إثمهما أكبرُ من نَفْعِهِما. فماذا صنعنا لنصلح مسارهما ووجهتهما ؟

إن الإيمان النظري قليل الجدوى وإن صحت أدلته ، والعاطفة الحارة قليلة القيمة إذا جانَبَها الفكر الراشد والرأي الصحيح.

ولكي نبني أجيالاً صالحة ، يجب أن نقدم من تراثنا الغني ما ينشئ يقيناً ناضجاً ، وسريرة ناضرة ، وربانية نتعامل مع الدنيا بذكاء وترفع ، لا بِنَهَم وضراعة.

رأيت ناساً يَرْنُون، بخشوع إلى أحد الحكام الخَوَنة ، فقلت : أعوذ بالله من الخذلان ، إنهم يَرْنُون إلى حظوظ الدنيا عند هؤلاء ، ولو كانوا يؤمنون بالآخرة ما عرفوا لهم باباً..

ورأيت ناساً أصدروا فتاوى سيئة ، ودافعوا عنها بقوة ؛ كان الدفاع عن المنصب وراء جدالهم الطويل عن هذه الفتاوى.

ألا فلنعلم خبايا هذه المواقف، يوم تكون صلة امرئ ما بالمال والجاه كصلة الوثني القديم باللات والعْزّى ، فهو مُشْرِك ؛ لأن الله ليس فى قلبه ، إن فى قلبه شيئاً آخر ! أي إسلام هذا ؟.

إن الجانب الإلهي في الإسلام والجانب العاطفي في الإسلام ينبغي أن تعاد دراستها على ضوء من الكتاب والسّنّة، وأظن الذين حاربوا عِلْم الكلام والتصوّف ذكروا بدائل حسنة لما غذوه خطأ في هذين العِلْمَين ، فهل درسنا هذه البدائل ؟ إن جمهوراً كبيراً من المنتمين إلى السلفية لا يعرف ما كتبه ابن القيم فى : " مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين " ولا ما كتبه فى : "طريق الهجرتين " ولعله يحسب هذه الكتابات من هناته (!) وما هذا الحسبان إلا من فرط الجلافة وغلظ الحجاب..

والحق أن الإيمان المقبول عند الله هو إيمان المحبة والتفويض والركون إلى الله لا إلى الظالمين ، والأنس بالله لا بالمكانة الشعبية والْتِفاف الجماهير..

وقد نرى ثروة معجبة من هذه المعاني في تركة المتصوّفين يمكن انتقاؤها بعناية ، واطراح ماعداها من بدع..

ولنؤكد هنا أن التصوّف المقبول ـ إن صَحّ التعبيرـ تربية دقيقة قبل أن يكون سِعَة عِلم ، وإنما أُخِذ على القوم أمران ، أحدهما الغُلُوّ والجهل بأحكام كثيرة دينية وإنسانية ، والثاني اعتبارهم مراحل الطريق أو درجات الرقّي صفة لفرقة متميزة من المسلمين ، تنعزل بها عن العامة ، وتنفرد بأحوال خاصة ، وهذا باطل.

فنحن المسلمين أساسنا الأول كتاب الله ، وللإيمان في كتاب الله خصائص تُعَدّ مثلاً عليا لكل من يقرؤه ، هذه الخصائص من شهود ومراقبة وتهيُّب تتكون في ساحات الحياة لا في أجواف الصوامع.

وتدبُر هذه الآيات : (لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ). (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) . (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) . (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).. الخ.

إن المشاعر النابضة بالحياة المشاركة فى معاركها الهاجمة مع أمواج المد أو المتراجعة مع أمواج الجزر ! هذه المشاعر هي أجزاء الإيمان عندنا ، فليس الإيمان أنفاساً باردة وخيالات طائرة. وإذا لم نصنع العلوم التي تقيم هذا الإيمان وترفع قواعده فنحن نخون الإسلام..

إننا نصنع هذه الثقافة لا لنطبقها بين ظهرانينا وحسب ، بل لنصدّرها إلى العالمين كي يعرفوا : مَن نَحْن ؟ وبماذا نَدِين ؟

أليست هذه وظيفتنا ؟ إنها رسالة أمتنا التي ينبغي أن تعرف بها شرقاً وغرباً..

والصلوات وغيرها من فروض إنما تقدَّر وتقبل بقدر ما تحوى من هذه المعاني ، وبقدر ما ينشأ عنها من أخلاق زاكية ، وبُعْدٍ عن الدّنايا..

والأمم لا تنجح في أداء رسالتها إلا إذا كانت لها قدرات مادية مساندة ، وحكم الوسائل هنا هو حكم الغايات نفسها ، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب..

أإذا اعتمد المؤمنون في تحصيل الرغيف على عون الملاحِدَة أمكنهم هذا العجز من تبليغ رسالتهم ؟

أإذا انتظر المسلمون إمداد السلاح من غيرهم أمكنهم ذلك من الجهاد فى سبيل ربهم ؟

إن دولة إسرائيل بَرَعت فى صناعة الأسلحة ولها فى هذا الميدان تجارة عالمية (!) فماذا عند العرب ؟

وأشعر ـ وأنا أكتب هذه السطور ـ بالقهر والشتات. لا لفراغ بلادنا من المصانع المخوفة ، بل لأن اليهود يستعدّون لانتخابات جديدة ، وتوجد بلاد إسلامية تستعدّ هي الأخرى لانتخابات مماثلة.

قلت في نفسي : منذ نشأت دولة إسرائيل ما زورت فيها انتخابات قط..! أما نحن فأبناء بجدتها في صنع النتائج التي يعرفها العالم.. فلأدع هذا الاستطراد ، ولأعدْ إلى الوسائل التي لابد منها لأداء رسالتنا.

إن الإسلام أنبأنا بأننا أعلم بشئون دنيانا ، وشئون الدنيا العلمية والعملية تتنافس الآن في تجويدها خمسون ومائة دولة ، كل دولة تبذل وسعها لتتقدم وتسبق ، وتدعّم وجودها المادّيّ والأدبي..

والوَحي الإلهي لا صلة له بالمعادلات الجبرية ، ولا بالكشوف الكونية. هذا موكول إلى جهود البشر، ومدى ذكائهم ونشاطهم ، والسباق اليوم رهيب بين فرعي الحضارة الحديثة ، الشيوعي والصليبي للسيطرة على زمام الحياة الأرضية.

كلاهما يريد دعم نفسه ومبادئه بما ملكت يده من علم وتطبيق.

هل للمسلمين وجود في هذه الميادين ؟ أين اختفوا مع أن آباءهم قادوا الحياة البشرية دَهراً ؟ وبماذا يشتغلون ؟ الواقع أن هناك خطأ أساسياً في أسلوب تفكيرنا وعبادتنا لربّنا ، لأننا لم نُعْطِ القدرة المدنية والعسكرية وزنها الصحيح.

وأغلب العابدين يرجحون نافلة في مجال العبادات المحضة، على درس علمي أو ابتكار صناعي ، وربما ظن تلاوة وِرْد أرضى لله من اختراع آلة ، أو صَوْن جهاز، أو إحكام إدارة، أو تدبير سياسة.

إن التحدّي الثقافي الأجنبي يمتد حتما في هذا الفراغ العقلي والديني عندنا، وربما أعانه هذا على استئصال شأفتنا ، والقضاء على رسالتنا.

وعندي أن مطاردة الفقهاء والدعاة الذين يصنعون هذا الفراغ أهَمّ مِن مطاردة تجار المخدرات ، وباعة الخمور، وإذا لم ننقذ مستقبلنا الحضاري من هؤلاء الناس قضوا علينا يقيناً. ولا ينبغي أن نستحي من أن نكون تلامذة لِمَن سبقونا ، وأن نتواضع لهم حتى نعرف ما لديهم ، ونحسن رَتْق فتوقنا..

لكن المأساة المثيرة للبكاء أننا نرسل طلاباً ليكملوا نقصنا فى هذه الناحية فإذا الذاهب إلى موسكو يعود بفكر ماركسي ، والذاهب إلى واشنطن يعود بفكر انحلالي تبشيري. والعلم النافع القليل الذي حصل عليه سرعان ما يتبخر ولا تجد له أثراً، أو أثراً ضُرّةُ أكثرُ مِن نفعه.

والمرء إذا وَهَى دِينُه يقاد من بطنه وفرجه أكثر مما يُقادُ مِن عقله وضميره وتلك حال مبعوثين كثيرين..

إن فقرنا العِلمي والصناعي شديد ، ونحن أحْوَج أهل الأرض لنجدات تستبقي حياتَنا وإيمانَنا ، فهل يُسْعِفنا شبابُنا في هذه الميادين ؟.

ومع استيراد العلم الذي لا وطن له ، نحتاج كذلك إلى استيراد الوسائل التي لا وطن لها.. إن الارتقاء البشري فى العالم جعل الإدارة فنًّا رفيع الأداء. ومَكّن الأخصائيين ـ بحسن النظام ـ أن يختصروا أوقاتاً وأعمالاً كثيرة ، وأن ينجزوا في ساعات ما ننجزه نحن في أيام. وأن يضبطوا مفاهيم كانت رجراجة ، ويبتوا في قضايا كانت معلقة..

وَلأزد هذا الموضوع جلاءً حتى لا يكون نقل الوسائل ذريعة إلى نقل الأهداف.

إنني أومن بالشورى ، وأزدَرِي الاستبداد السياسي من أعماق قلبي ، وأرد إليه أغلب هزائم أمتنا خلال تاريخها.. وأرمق الديمقراطية الغربية فأحسد أصحابها على مناقشة الآراء بحرية ، وعلى استكانة الحكام للحق ، وعلى اعتزاز الأفراد بكراماتهم ، وكنت أهمس إلى نفسي : أما يجيء يوم يظفر فيه المسلمون بمثل هذه النعمة ؟.

بَيْدَ أنني مسلم ، لا يتقدم شيء أبداً على ولائي لله ، وقد تابَعْتُ مناقشات مجلس العموم البريطاني فى مسألة إلغاء عقوبة الإعدام ورأيت كيف حاولت رئيسة الوزراء الاقتصاص من القتلة ، وكيف خذلها أغلب أعضاء المجلس وأصرّوا على إلغاء عقوبة الإعدام.

قلت : هذا هو الفرق بين الشورى عندنا وبين الشورى عندهم. نحن نرى أنه لا اجتهاد مع النص ، ولا شورى مع كلام الله ورسوله ، وهؤلاء ساء ظنهم بالدّين كله ، وقرروا البحث بعقولهم عن مصالحهم.. وَكُفْر الغربيين بالدين يرجع إلى أسباب نابعة من البيئة لديهم لا نشرحها هنا..

وإنما أحَذّر من عصابة تجحد الشورى وترفض كل الضمانات التي استحدثها العالم الحر ـ كما يتسمى ! ـ وتجعل الاقتباس من الديمقراطيات الغربية كفراً وحجتها أنها تجعل السلطة للشعب ولا توقفها أحكام الله.

وهذه المحاذير كلها تنتفي مع أي دستور ينص على أن الإسلام دين الدولة ، إذ يستحيل معه الخروج على شيء من كتاب الله وسنة رسوله.

إن المهم هو تقليم أظافر الفرد الطاغية ، واختفاء الصورة السمجة المأخوذة للحكم الديني ، صورة إنسان " يجيئه شاعر مَلِقٌ فيقول : أعطوه مائة ألف درهم.

مائة ألف من عَرَق الكادحين ثمن كذب مزخرف.

فإذا تقدم أحد بنصح، أو ضُبِط متلبساً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيل : اضربوا عنقه. فإذا هو قصة تروى.

بديه أن هذا ليس سيرة الخلافة الراشدة ، فأين هذه الخلافة؟ ولماذا لا تحتاط الأمم لنفسها ضد الطواغيت فى وثائق مفصَّلة مضبوطة ؟

ومراقبة المال الخاص والعام في دورته الاجتماعية أليست عملاً صالحاً تفرضه أحكام الحلال والحرام ؟ أيضيق الإسلام بهذه الرقابة ؟

يقول مصطفى صادق الرافعي ـ وهو كاتب مسلم معروف : ـ إن الله خلق الأرض وقَدّر فيها أقواتها ، ولكن غَنِيا واحداً يُنْفِق فى لَذّةِ يَوْم قُوتَ مَدِينة .

وحمار واحد لا يأكل الأرض ليجيع بقية الحمير، ولكن بعض الأغنياء يفعل ذلك. هل الإسلام يحمي تلك الفوضى ؟ ويرى الضائقين بها خارجين عليه ؟

فإذا كانت مجتمعات الغرب قد وضعت قوانين وتقاليد تنظم مسيرة المال فى المجتمع فَلِمَ لا نقتبسها ؟

والاقتباس كما قلنا آنفاً لا يُقبَل بتاتاً إذا خالف نصًّا في كتاب أو سُنّة.

ومن التحديات الثقافية الحملة على موقف الإسلام من المرأة ، واتهامه باحتقار الأنوثة وانتقاص حقوقها ! والواقع أننا أعنا على استمرار هذه الحملة ، بل على نجاحها في بعض الأحيان.

فلدينا علماء يختارون في معاملة النساء أعسر الفتاوى وأردأ الأقوال ، وتتملكهم حُمّى إذا ذُكرت للمرأة حقوق ، أو مُحيت بعض التقاليد التي تحرجها..

ومعرفة هؤلاء بالإسلام ضَحْلة أو مُشَوّهة ، أو مكذوبة. ومع ذلك فقد استطاعوا من قرون ألا تذهب المرأة إلى مسجد أو مدرسة !، وحكموا ألا ترى أحداً ولا يراها أحد ورأوا أن تُورَث ولا ترِث ، وأن يختارها من يريد زوجة له ولا تختار هي أحداً..

وبعد الهزائم الشاملة التي أصابت العالم الإسلامي أجمع في كل ميدان ، شرع أولو الألباب يعودون بأمتهم رويداً رويداً إلى تعاليم الإسلام في عهده الأول وهي تعاليم عادلة وفاضلة ، غير أن الجهل المستشري يضع أمامها عوائق كثيرة.

وكما وجد من يحارب الشورى ودساتيرها الدقيقة وجد من يرى النقاب الركن السادس في الإسلام ، ومع هذا النقاب المضروب تنكمش إنسانية المرأة وتذوي قدراتها الأدبية ونشاطها الذي قرره الإسلام من قديم.. وكأني أسمع من يقول : تريد انحلال الغرب ، وضياع شرفه؟.

وهذا افتراء فإن الغرب مُوغِل فى الآثام التي يأباها كل عاقل.. والانحراف المأخوذ على الغرب ليس أسوأ من الانحراف الذي ينشدونه هم. إن الغرب يميل عن الصراط المستقيم ثلاثين درجة إلى اليسار، وهم يميلون عنه ثلاثين درجة إلى اليمين والعوج الواقع لا يخففه أن يكون هنا أوهنا ، إنه بعدٌ عن هدايات الله على أية حال . .

ولكي ألقى كل تحدٍّ ثقافي وأنا راسخ القدم ، أحب أن أعرف ديني من مصادره السماوية لا من تقاليد الأجناس المختلفة ، وأن أفرق بين اليقينيات والظنيات ، وأن أدرس التاريخ الفقهي والسياسي دراسة اعتبار واستفادة تحميني من التورط فيما توَرَّطَ فيه قوم آخرون .

----------( يُتَّبَع )----------
#محمد_الغزالى
#الغزو_الثقافي_يمتد_في_فراغنا
كلمة حرة
نشر في 12 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع