Facebook Pixel
فساد عاطفة التدين
1349 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

إن اختفاء المتصوفين من أنحاء الحياة العامة لا يعنى البتة استخفاء المبادئ التى خلفوها، وغرسوها فى ماء الأجيال الأولى، وخلطوا بها أهم وجوه النشاط الدينى

كتاب : الإسلام والطاقات المعطلة - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 4 ] : فساد عاطفة التدين

جلت فرق المتصوفين عن أغلب الميادين الجادة، ولم تبق منهم إلا فلول توشك أن تنقرض... وانقراضها ـ إذا وقع ـ ليس لانتشار الإيمان الصحيح، بل لأن الإلحاد والشك يهزان الآن كل القيم. ويصرفان الجماهير عن أخطاء محدودة كى تقع فى خطايا غير محدودة... ولا شك أن هذا أمر مؤسف..!

على أن اختفاء المتصوفين من أنحاء الحياة العامة لا يعنى ـ البتة ـ استخفاء المبادئ التى خلفوها، وغرسوها فى ماء الأجيال الأولى، وخلطوا بها أهم وجوه النشاط الدينى...

إن هذه المبادئ لا تزال باقية فى مظانها من كتب الأقدمين. والخطر لا يكمن فى هذا، بل يكمن فى أن صورة التدين الطيب لا ترتسم إلا من هذه المخلفات العجيبة...

ولذلك ترى أكثر التائبين إلى الله، والفارين من ضجيج الحياة العامة والمتقاعدين من موظفى الحكومة.. الخ، يجدون راحتهم النفسية فى الالتحاق بمجالس التصوف...

وأحب أن أكون منصفا ... إن التصوف علم احتضن كثيرا من العواطف الإسلامية الشريفة. ونمت فى مباحثه فنون شتى للتربية والأخلاق، ونجح رجاله فى الانفراد بمقاود العامة.. واستطاع فريق منهم أن ينشر الإسلام فى الأقطار النائية...

وإذا كان التصوف قد تطرق إليه فساد كبير، ونشأت عنه مناكر وهزائم شنعاء. فإن غيره من علوم الدين واللغة لم يسلم من هذا الفساد، ولا نجت الأمة من الشرور التى عرته.

إن علم الكلام ـ كما يدرس فى الجامع الأزهر الآن ـ سقيم المنهج قليل الجدوى.. وعلم الفقه ـ كما يؤخذ عن كتبه المؤلفة من عدة قرون ـ يسئ إلى الدين أكثر مما يحسن. وعلوم البلاغة ـ التى تدرس متونها وشروحها، دراسة تقليدية دقيقة ـ لا تكون أدبيا..! بل لعلها تفسد الذوق البيانى عند أصحابها. بيد أن هذا العوج العلمى محصور فى مواطن ضيقة.

أما عاطفة التدين على النحو الذى صاغها فيه علم التصوف فقد اقتحمت جميع السدود، وغلبت على الألوف المؤلفة، وتنقلت بين مختلف الأجيال..

حتى لقد جاءت أحيان من الدهر على الأمة الإسلامية المترامية الأطراف، وهى تسير فى هذه الطرق، وتصبغ دينها ودنياها بهذا اللون من الفهم والسلوك.

لو أن التصوف اقتصر على شرح الجانب العاطفى فى الإسلام، والتزم فى شروحه الحدود المعروفة فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأفاد كثيرا.

بيد أن التصوف دخل فى موضوعات غيبية لا علاقة له بها. وتعلق بأفكار أجنبية ينكرها الإسلام. واشتط فى أحكامه على الأمور، فزل عن الصراط المستقيم.

وصلة المسلم بالحياة من الموضوعات التى أصدر التصوف فيها فتاوى خاطئة. ولعل الخطأ جاء من سوء العلاج لا من سوء الفهم... ذلك أن الفضيلة كثيرا ما تكون وسطا بين رذيلتين، إلا أن هذا الوسط ليس بالقياس الهندسى الدقيق.

فقد تجئ الفضيلة أقرب إلى أحد الطرفين، كالكرم، والشجاعة، مثلا.. فإن الكرم أقرب إلى الإسراف، والشجاعة أقرب إلى التهور.. وزحزحة الإسراف جهة اليمين ليكون كرما فحسب. وزحزحة التهور كذلك ليكون شجاعة فحسب، أمران يحتاجان إلى مس لطيف تتحقق به الفضيلة المنشودة.

فإذا زادت الحركة عما ينبغى تجاوزت الوسط المطلوب. وربما حولت المسرف إلى بخيل، والشجاع إلى جبان، وتأمل قول الشاعر:

بلغت فى لومه حدا أضربه .. من حيث قدرت أن اللوم ينفعه!

إن ذلك ما فعل المتصوفة، نهوا الناس عن حب الدنيا والفتنة بها. وما زالوا يحصون مثالبها ويقبحون الاتجاه إليها، حتى أصبحت أيدى الناس صفرا منها. فعانوا آلام الجوع بعد ما كانوا يعانون متاعب البطنة...

فأى طبيب ذلك الذى لا يحسن إلا نقل المريض من علة إلى علة قد تكون شرا منها وأنكى!؟

وتراث الصوفية حافل بهذا الغذاء المسموم. لا يصح الإيمان إلا بنبذ الحياة، ولا تخلص الآخرة إلا بهجر الدنيا.

ومع أن أصحاب الكلام قد انقرضوا فيما نعلم، إلا أن الحرارة التى صحبت غرسه ونشره فى القرون الأولى، استبقت آثاره إلى هذه الأيام... فترى العاصى الذى يريد التوبة يفكر أول ما يفكر فى الانسلاخ عن الحياة، واعتزال الناس!!

كأن ذلك هو وحده طريق الحق، أو أن ذلك هو ما عرفه على أنه منهج الإسلام..

إن الخباز الأحمق قد يدخل الأرغفة الطرية فى الفرن ليقددها، فإذا هو يحرقها... كان اللفح الخفيف كافيا لإنضاجها، ولكنه تركها للنار حتى أتت عليها.. والمتصوفة أفلحوا فى تكوين أجيال محترقة من زمان بعيد. سلطوا عليها من اللهب ـ باسم إنضاجها ـ ما جعلها ترابا لا خير فيه، وهم يتصورون أنها بلغت درجة الكمال.

لقد استطاعوا ـ فيما رسموه لأنفسهم وللناس من طرق ـ أن يحدثوا تلفا حقيقيا فى أجهزة الطبيعة الإنسانية..!!

ذلك أن صلة المرء بالدنيا لاصقة بفطرته. واهتمامه بشئون الحياة الدنيا يجرى الهواجس فى نفسه تيارا متقطعا، ولكنه دائم. ولذلك قلما يفلت أحد منها.

والشارع الحكيم لم يتصور ـ ولم يطلب ـ خلو النفوس من هذه الهواجس الدنيوية حتى فى أثناء الصلاة...

أما الصوفية فقد طلبوا ذلك وبينوا الوسيلة إليه. قالوا: إن الهواجس البشرية كالطير السارحة فى الجو، كلما وجدت شجرة مورقة أوت إليها، واتخذت من غصونها أعشاشا، ومسارح للغناء...

وما دامت شجرة الدنيا باسقة فى القلب، فلن تفتأ الهواجس والخواطر تهجم على الإنسان وتعكر عليه مناجاته لربه، وتجعل صلاته مشوشة.

والطريقة المثلى لخلوص القلب، قطع هذه الشجرة من الفؤاد! ومن ثم تنطرد هموم الحياة من تلقاء نفسها، إذ لن تجد مكانا تحوم فيه...

وهذا الكلام ينطوى على خطأ كبير، وإن بدت فيه مشاعر الإخلاص الحار...

وأول آثاره ـ فى وعى مسلم يقف بين يدى الله خمس مرات فى اليوم ـ أن علاقته بالدنيا سوف تضعف جدا، بل سوف تنقطع يقينا.

وما كذلك عالج الإسلام هذه القضية الخطيرة. فقد صح عن عمر بن الخطاب أنه قال: " أنى لأحسب جزية البحرين وأنا فى الصلاة ".

وكلام عمر واضح، وعلته واضحة. فالرجل يقرأ فى صلاته قرآنا يتحدث عن الحياة وعن القتال وعن الجزية، وتداعى المعانى فى هذا المجال طبيعة لا غرابة فيها ولا نكر.

بل إن الإسلام كان متجاوبا مع جبلة البشر، عندما اعتبر هذه الوساوس ـ كتغضن وجه الماء عند هبوب النسيم على صفحة البحر ـ أمرا لا تبطل به الصلاة، ولا يؤاخذ به الإنسان. قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله تجاوز لأمتى ما لم تتكلم به، وتعمل، وبما حدثت به أنفسها ".

وقد ورد فى الحديث أن الشيطان ـ بعد انتهاء الإقامة للصلاة ـ يقبل على المصلى، ويخطر بينه وبين نفسه، ويقول له: اذكر كذا لما لم يكن يذكر ...!!

ولم ير النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا مفسدة للصلاة، إلا أن يسهو عن شئ فيجبره بسجدتين.

لكن أحد العلماء وقف على مجلس للصوفية، وسأل شيخهم: ما حكم من سها فى صلاته؟

فقال: عندنا أو عندكم؟ فاستغرب السائل.

واستطرد المفتى يقول: عندكم سجدتان. وعندنا يضرب مائة سوط، ويطاف به فى الأسواق، ويقال: هذا جزاء عبد أساء الأدب فى حضرة سيده!!

إن أصل الإخلاص لله فى هذه الفتوى قد يقبل! ولكن ترك هذه العواطف تموج كيف تشاء، وتنشئ من الأحكام ما ترى، غلو يقتل الدين والدنيا معا، كالدبة التى قتلت صديقها فى حرارة الإخلاص له والدفاع عنه.

وقد قلت: إن هذا التصوف قد انتهى عصره، وانقرض رجاله، ولكن بقاياه الشائعة فى مواريثنا الروحية والفكرية لا حصر لها..

وأذكر أننى تعلمت قواعد البلاغة فى كتاب لأحد الصوفية، حرص الرجل فيه على جعل الأمثلة كلها متضمنة للحقائق المتداولة بين القوم. مثل: " اللهم عبدك أتاك معترفا بذنبه، فتب عليه توبة تمحو الأغيار من قلبه ".

والأغيار ما سوى الله.. والمراد بالمحو قطع علائق القلب بها.. ومن أمثلته أيضا:

فاخلع نعال الكون كى تراه .. وغض طرف القلب عن سواه

والمراد أن العوالم حجاب يمنع البصيرة من معرفة الله، وأن مقام الإحسان لا يصل إليه إلا رجل انقطع عن الأكوان، وتجرد لله وحده، كما قال شاعر صوفى تابع له اسمه حسن:

فاخلع نعال الكون كى تراه .. وغض طرف القلب عن سواه

ووجه الخطأ فى هذا الكلام يظهر فى عبارات: الكون المخلوع، والوجود المتروك، والأغيار الممحوة... ما معناها؟

إن كانت تعنى حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فإن هذه العبارات من ناحية الشكل خطأ. لأن العموم الذي صيغت فيه يوقع فى لبس خطير.

أما من ناحية الموضوع فإن حب هذه الشهوات لا حرج فيه دينا، ما دامت تنال بالوسائل المشروعة، وما دامت لا تورث صاحبها جبنا يقعد به عن مواطن الجهاد..

إن النهى عن الزنا لا يتضمن النهى عن الزواج. والأمر بالذهول عن المال والولد عندما يسمع نداء الحرب، ويهيب داعى الاستشهاد، لا يعنى تحريم امتلاك المال وإنجاب الأولاد...

ثم نعود إلى علاج الخطأ الأول فى هذا التفكير الصوفى.

إن معرفة الله لا وسيلة لها إلا النظر فى الأكوان. فكيف تعتبر نعالا لابد من خلعها للوصول إلى الله..!؟ ذلك فى نظرى سر الشلل الذي أصاب العقل الإسلامى فى ميادين شتى.

إن كراهية العالم الذى تحيا فيه للظفر بمحبة الله، طريقة فى الدين لم يقل بها نبى، ولم تجئ فيها شريعة. .

والمتتبع لأسلوب القرآن فى بناء الإيمان، وتكوين الأمم، يستيقن أن مدارسة الكون، ومعالجة الحياة، هما النهج الأوحد لإقامة الدين الحق، وإقامة الدنيا الحارسة له. وقد ابتدأ هذا النهج واطرد، من أول الرسالات إلى آخرها..

ففى رسالة نوح نستمع إلى هذا التساؤل الواضح الدلالات: (ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا).

أرأيت هذا اللفت القوى إلى ما فى الكون من خيرات ميسرة للناس؟ من مشارق الحضارة الأولى، ومنذ تكون أول مجتمع للبشر على ظهر هذه الأرض، وقف نبى الله نوح يقول للناس: الأرض لكم بساط، فاسلكوا سبلها، واستثيروا ذخائرها..

وبعد ما غبرت دهور على سير القافلة البشرية فى التاريخ، وانطلاقها مع الزمن، نسمع الخطاب نفسه، والمعانى نفسها على لسان محمد صلى الله عليه وسلم :

(قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال * الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه).

فهل يكون متدينا هذا الذى يستمع إلى تلك الإباحات، ثم يقرر بناء صلته بالحياة الأولى على الانزواء، والغربة فى الكون، والجهل بأسرار الوجود!؟

إن التصوف ضل الطريق، وظلم الدين بهذا المسلك...!! وإن الأمة الإسلامية هانت فى العالم، وهان معها كتابها وهداها لما سارت فى تلك السبيل...!!

لو أن المسلم كرس عمره لاستكشاف المجهولات من قوى الكون ـ كما فعل "أينشتين" مثلا ـ لكان تأمله تسبيحا، وانكبابه على عمله اعتكافا. فهذا لون من الجهاد فى سبيل الله.

والمجاهد فى سبيل الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ له أجر الصائم لا يفطر، والقائم لا يفتر.

وهذا الدرس الذكى للكون، أهدى طريقا من التأمل المباشر فى ذات الله. فإن هذه التأملات لم تجن ـ بعد المحاولات المضنية ـ إلا بحصيلة سقيمة من الظنون والأوهام. ولم تخلف فى كيان الأمم إلا التعادى والانقسام.

أما الدرس الدقيق للكون فهو ـ باب الوصول إلى الله. وهو ـ لا غير ـ باب الإفادة الواسعة من كنوزه الدفينة ومنافعه الغزيرة.

والواقع أن النفس الإنسانية فى ظل التدين المعلول تعجز عن القيام بوظيفتها فى الحياة، بينما تستطيع القيام بهذه الوظيفة نفس ليس لها من التدين إلا ما جبلت عليه من طباع وأفكار.

أى أن التدين الفاسد عطل أجهزتها الفطرية.

أما الإلحاد فقد أبقى هذه الأجهزة تتحرك، وإن طاشت حركتها حينا، وأخطأت غايتها حينا آخر...

وهذا هو التعليل لتخلف المسلمين فى القرنين الأخيرين، على حين تقدم غيرهم، واستبد دونهم بتصريف الأمور وفرض ما يشاء.

----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالي
#الإسلام_والطاقات_المعطلة
كلمة حرة
نشر في 05 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع