Facebook Pixel
دين الفطرة الذي خلقنا عليه
1783 مشاهدة
1
0
Whatsapp
Facebook Share

إن الإنسان بفطرته التى ولد بها يدرك أن العدل حسن والظلم قبيح، وأن العلم مفخرة والجهل معرة، وأن الطهر سمو والعهر سقوط، وهو الأقرب إلى تعاليم الإسلام

كتاب : علل وأدوية - بقلم : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 6 ] دين الفطرة

أكاد أشعر بأن أشواق الفطرة وآثارها أشيع فى ظل الحضارة الحديثة منها فى ظل التدين المختل.

إن الإنسان بفطرته التى ولد بها يدرك أن العدل حسن والظلم قبيح، وأن العلم مفخرة والجهل معرة، وأن الطهر سمو والعهر سقوط.

ومع تجاوب المرء مع فطرته، ومع تعاونه مع أشباهه يمكن إقامة مجتمع أدنى إلى روح الدين، أو أقرب إلى تعاليم الإسلام.

وعند الموازنة يكون هذا المجتمع أرجح وأنجح من مجتمعات أخرى صماء عن نداء الفطرة، ماهرة فى احترام المظاهر، قد يروج الدين فيها أشكالا من العبادات، تمارس برتابة بعد تفريغها من محتواها المهم أعنى بعد أن تخلو من الخشوع والفهم.

والعبادات تفقد وجهتها السماوية وقيمتها الروحية ونتائجها الاجتماعية عندما تمارس حركات بدنية وحسب.

ولنزد هذا الكلام وضوحا؛ إن أساس الفطرة عقل سليم وقلب نقى. وسلامة العقل توجب احترام الحقائق، وإدراك الواقع دون نقص أو زيادة، ورفض الأوهام والخرافات، والوقوف بالظنون عند حدودها فلا تتحول النظرية إلى يقين مثلا وضبط الأحكام المادية والأدبية للأشخاص والأشياء فلا يجمح الخيال بها إلى فوق أو تحت.. ذاك بالنسبة إلى العقل.

أما بالنسبة إلى القلب ونقاوته فإن الفطرة السليمة تعنى إنسانا لا يعبد نفسه، ولا يقدم أثرته، ولا يتحامل على الآخرين. تعنى إنسانا يشعر بأن الحياة حقه وحق غيره على سواء، فلا معنى للحقد والغش والافتراء وتلمس العيوب للأبرياء ومحاولة الصعود على أنقاض الخصوم، أو من نرى نحن أنهم خصوم.

ذلك كله هو مفهوم الفطرة السليمة، إذ هو جوهرها الحر ومعدنها الغالى، وأى امرئ يفقد هذه الفطرة فقد خسر نفسه ولن يعوضه عن هذا الخسار شىء.

هناك عباد نحقر صلاتنا إلى صلاتهم، وقراءتنا إلى قراءتهم، ومظاهرنا إلى مظاهرهم، يفلتون من الدين بسرعة البرق لأن روابطهم الفطرية بالدين واهية أو معدومة، فأى دين لأولئك المزورين؟

إن فى عقولهم خللا لا تحسن معه وزن قضية، وفى قلوبهم علل تجرئهم على استباحة غيرهم، فأى تقوى ترتقب عند من فقد فكره وفؤاده؟

لقد كان الإسلام مبينا فى إعلائه قدر الفطرة، وفى جعلها عنوانا للإسلام، فإن الكهانة، وشارات الاتصال بالته على نحو مبهم، وطلب الدنيا باسم الدين، هذه كلها رذائل فضح الإسلام ذويها عندما قال: (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله).

والمؤسف أنا نجد أقواما تنقصهم الدقة العقلية وسلامة الصدور يزحمون البيئات الدينية. ولا أدرى كيف ينتمى إلى دين الفطرة من فقد ركنى الفطرة كليهما نفاذ العقل، ونقاء الضمير؟ فى رفع الإنسانية إلى مستواها المطلوب يقول الله جل شأنه: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

إن الدين القيم هو أساس النبوات التى زحمت القرون الأولى ثم ختمت أخيرا بالنبى العربى (محمد) الذى نقى الأصول مما عراها، ونفى عن حقيقة الفطرة كل ما يشينها، ووضع الدين فى صيغته النهائية فلا تحوير بعد ولا تبديل إلى آخر الدهر.

وللفطرة الصحيحة سماتها البارزة فى العقيدة والشريعة، والحق بطبيعته لا يتعدد، لأنه خط مستقيم، كما قال علماء الهندسة: الخط المستقيم أقصر طريق بين نقطتين، ومن ثم لا يكون إلا واحدا.. أما مع فقدان الاستقامة واختلاف المبدأ والنهاية فإن الخطوط المائلة لا تحصر عدا.

وسواء أكانت عن يمين الخط المستقيم أو يساره فهى طرق معوجة. والسائرون عليها ضالون، ولا رشد إلا فى التزام الصراط المستقيم..

ولعل أول معلم فى دين الفطرة هو أن يعرف المرء ربه الواحد معرفة واضحة صادقة، وأن يؤسس معه علاقة وطيدة وثيقة.

إن الولد العاق لأبيه وغد ذميم! والمرء الجاحد لربه شر وأخبث.. والناس تشرد بهم عن الله عبادتهم لأنفسهم، أو علاقة سخيفة بحجر. أو شىء حيا كان أو ميتا.

ومع نسيان الله وإهمال الصلاة له تنشأ مذاهب شتى وفلسفات كثيرة، يتعصب لها المتعصبون، والناس إن لم يجمعهم الحق فرقهم الباطل، وإن لم تقنعهم الآخرة توزعتهم أودية الدنيا، واستبدت بهم أطماعها، وتناحروا على سرابها.

من أجل ذلك قال الله لنبيه ولمن تبعه من المؤمنين الذين آثروا الفطرة: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون).

وليس معنى الفطرة أن الناس يولدون بعقائدها وفضائلها، فلو كان الأمر كذلك ما كان هنالك تكاليف، وإنما المعنى أن الناس يولدون مستعدين لها مؤثرين لمنهجها، يتدافعون فى مجراها تدافع الماء إلى منحدره، وأن عوائق مصطنعة هى التى تقطع طريقهم وتردهم عن وجهتهم.

ترى ما هذه العوائق؟ إن الحديث الشريف أشار إلى أخطار البيئات المنحرفة، فهى التى تلوى زمام الفطرة عن التوحيد إلى التثليث أو التجسيد. وهذا صحيح مشاهد.

إن ذلك يطرد حتى فى عالم النبات، ففى بعض الحقول تستطيع أن ترى الأزهار زاهية والجنى وارفا والثمار مفرحة.. وفى بعض آخر تغير أسراب من الجراثيم، وتظهر الأمراض الفاتكة بالمحاصيل فإذا الفواكه معطوبة، والحبوب مشوهة وناقصة. ما كانت هذه فطرتها، ولكنه عمل العلل الوافدة.

وفساد الناس قد يصل إلى الأجنة قبل أن تولد! فالمفروض أن تبرز الأجنة إلى الوجود كاملة الحواس سوية المشاعر! بيد أن الزناة الفسقة قد يصابون بمرض الزهرى، فتعدو جرثومته على عينى الطفل فتودى بهما ويولد أكمه! لقد برز على غير الفطرة البدنية الكاملة. والسبب هو فساد البيئة. ولما كانت نواقض الفطرة كثيرة فإن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبه إليها وحذر منها.

بين يدى الآن حديث طويل للإمام مسلم بعضه قدسى وبعضه نبوى يشرح علل ومسالك تؤذى الفطرة، وتبطلها عملها، وسأشرح هذا الحديث خلال سرده موجزا لتفسير ما أمكن.

عن عياض المجاشعى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذات يوم فى خطبة له: " ألا إن ربى أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمنى يومى هذا.. " "كل مال نحلته عبدا حلال " ما معنى هذه الجملة؟

هذه الجملة تؤكد المعنى فى قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا). قال تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا).

إن التدين الفاسد مولع بالتحريم، راغب فى تضييق دائرة المباحات، وهذا ظاهر فى الأديان الباطلة والمنحرفة. وقد يظهر على ألسنة بعض المسلمين الجهلة، فهم يشددون على الناس، ويقاومون منهج الفطرة.

والحديث القدسى هنا يرفض ذلك الجهل ثم يستأنف توجيهه السديد فيقول: " وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا.. وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".

فى هذا الكلام إشارة إلى الضلال الذى أطبق على الأرض قبل البعثة الشريفة فلم ينج منه إلا الأقلون. لقد طمست الفطرة واختفى وهجها تحت ركام من الكهانات والخرافات التى نشرتها الجاليات السائدة فى العالم.

وعودة الناس إلى دين الفطرة يقول الله تعالى لنبيه فى هذا الحديث القدسى: " وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك! وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا ".

فى هذه العبارة إشارة إلى خلود القرآن الكريم واستعصائه على عوامل المحو، لقد ضاعت كتب سابقة وتطرق إليها الغش! أما هذا القرآن فقد تم حفظه شكلا وموضوعا، معانى وحروفا، إن الصدور استوعبته فهو يقرأ فى كل زمان ومكان، لا يمحوه من القلوب شىء.

وهنا معنى آخر، يقول العلماء: إن العصمة لا تمنع المحنة أى أن النبى المعصوم مبتلى بأعباء الرسالة، يشق عليه أداؤها ولكنه يتحمل بجلد هذه المشقة.

ما نقول فى أناس يشمئزون من عقيدة التوحيد؟ ويكادون يوقعون صاحبها على الأرض حيث يحدثهم عنها؟: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون).

ويريدون السطو عليه والبطش به وهو يقرأ كتابه! ومع هذه المقاومة فقد أمر بالبلاغ، وإسماع القوم ما يلذع جلودهم، ويهيج ثائرتهم.

ولنسمع إلى هذا الحوار الجليل فى الحديث الذى نرويه: " وأن الله أمرنى أن أحرق قريشا ـ بإسماعهم ما يكرهون ـ فقلت: رب اذن يثلغوا رأسى ـ يكسروه ـ فيدعوه خبزة ـ كالرغيف المهشوم ـ قال: استخرجهم كما استخرجوك، وأغزهم نغزك ـ أى نعنك عليهم ـ وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله.. وقاتل بمن أطاعك من عصاك ".

وظاهر من الحديث الشريف أنه قيل بعد الهجرة وبعدما تصدرت قريش مواكب المعاندين، وأرصدت كل ما تملك لمحو الإسلام، فكلف صاحب الرسالة الخاتمة أن يجند نفسه ومن معه لضرب الضلال حتى يستكين.

ومضى الحديث بعدئذ يصف ذوى الفطر السليمة، وأخلاقهم فى مواقعهم الاجتماعية المختلفة فقال: "... وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق! ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال".

قال: " وأهل النار خمسة: الضعيف الذى لا عقل له ـ يعنى السفهاء الرعاع ـ الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا ـ يعنى أصحاب الفراغ اليدوى والنفسى الذين استهلكت البطالة أوقاتهم فلا يسعون إلى دنيا أو دين. "

والخائن الذى لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه " هذه صفه النوع الثانى من أهل النار، ناس لا تشغلهم أمانة، ولا تقفهم حدود، ولا ترهبهم مسئولية، فهم يلتهمون ما تصل إليه أيديهم من حقوق الآخرين.

وقريب من ذلك النوع الثالث الذى يصفه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: " ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك "..

أما الصنف الرابع فقد تردد الراوى فيه بين البخلاء والكذبة، وكلاهما شر من صاحبه.

والخامس: الفحاش، يعنى المشتط فى سوء قوله وعمله. وعندما ننظر إلى أصحاب النار فى هذا الحديث نجد أقواما غلبت عليهم الآفات النفسية، وتركتهم دون خلق شريف أو مسلك قويم.

ونستطيع ونحن ندرس الإسلام الحنيف أن نرى سنن الفطرة وآدابها وتعاليمها الكثيرة، لكن شيئا من ذلك ـ على مكانته ـ لا يغنى عن ركنى الفطرة الأصليين، وهما الفكر الحصيف، والقلب السليم.

ذاك أنه عن حصافة الفكر ونضج العقل ينشأ الإدراك الفقهى الواسع وكما جاء فى الأثر: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" فكم من عابدين أساءوا إلى الإسلام وجروا عليه المتاعب بقصور فقههم وإن كانوا له مخلصين.

وقد يكون الرجل حسن المعرفة ذكى الفهم، ولكن رغبته فى فرض ذاته، وإظهار مكانته، تستبد به فيقتحم الصعب والذلول، وينفق الغالى والرخيص ليكون الأمر له على حساب الدين ومصلحة الأمة ومستقبلها. إنه لابد من وضاءة الضمير والتفكير معا، لتتم مقومات الفطرة السليمة.

إن الفقه كشاف جيد للنية الصالحة، وللسريرة المعافاة من العلل. ويؤسفنى القول بأن المجامع الدينية تحتفى بالمظاهر المزوقة أكثر مما تحتفى بسلامة الفطرة، ولذلك فهى تتحرك فى مكانها، وربما تراجعت إلى الوراء.

----------( يُتَّبع )----------
#محمد_الغزالى #علل_وأدوية
كلمة حرة
نشر في 08 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع