Facebook Pixel
عن المساواة العامة للكاتب محمد الغزالي
1886 مشاهدة
0
0
Whatsapp
Facebook Share

مقال للشيخ محمد الغزالي من كتاب حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، يتكلم فيه عن المساواة العامة في الحقوق السياسية والمدنية

كتاب : حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة - تأليف : الشيخ محمد الغزالي

الحلقة [ 3 ] : المساواة العامة

• الحقوق السياسية والمدنية : البشر المنتشرون فى القارات الخمس أسرة واحدة انبثقت من أصل واحد ينميهم أب واحد وأم واحدة . لا مكان بينهم لتفاضل فى أساس الخلقة وابتداء الحياة.

والتكليف الإلهى يتجه إليهم جميعا على سواء . بوصف أنهم يتوارثون الخصائص النفسية والعقلية الشائعة فى جنسهم كله . وأنهم أهل لكل ما كفل الله للإنسانية من كرامة ٬ وناط بها من واجب .

قال الله تعالى : “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ...”. وقال تعالى: “يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” .

إن هذين النداءين نماذج لضروب النداء التى وردت فى القرآن الكريم والتى تنضح بأن الإنسانية معنى مشترك . يتساوى سكان الأرض فى حقيقته ونتيجته ٬ لا فرق بين أهل المناطق الحارة والمناطق الباردة ٬ ولا فرق بينهم جميعا الآن وبين آبائهم من قرون مضت أو ذراريهم بعد قرون مقبلة .

ولا نكران أن البشر يختلفون فى لغاتهم ٬ وألوانهم ٬ من الناحية العامة .

لكن هذا الاختلاف لا يؤبه له ٬ ولا يخدش ما تقرر من تساويهم فى الحقيقة الإنسانية الأصلية . إنه كاختلاف ألوان الورود فى البستان ٬ أو اختلاف الأزياء التى يرتديها الإنسان .

وقد رفض الإسلام رفضا حاسما أن يكون ذلك مثار تفرقة ٬ أو سبب انقسام . بل جعله بالنسبة إلى الخالق الكبير آية على إبداعه : “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” .

وبالنسبة إلى الناس أنفسهم مثار تعارف لا تناكر ٬ وائتلاف لا اختلاف . قال تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”.

ويقول صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس فى حجة الوداع ` أيها الناس ٬ إن ربكم واحد ٬ وإن أباكم واحد ٬ كلكم لآدم ٬ وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ٬ ولا لأحمر على أبيض ٬ ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى : ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد . ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب`.

• لا يجوز التمييز بين الناس لفروق مفتعلة :

واجه الإسلام عند ظهوره بيئة محلية تضطرب فيها موازين المساواة ٬ ويجار على الحقوق العامة لغير سبب مشروع .

فقد يضام المرء لسواد لونه ٬ أو لقلة ماله ٬ أو لضعف أسرته ٬ أو لما شابه ذلك من صفات وشارات .

وما عرفته البيئة العربية فى جاهليتها من هذه المساوئ عرفته الأمم الأخرى من روم وفرس ٬ وإن تنوعت أسباب التفرقة .

فلما شرع الإسلام يهدى الحيارى ٬ ويقود الناس إلى الصراط المستقيم لم تأخذه هوادة فى محق مآثر الجاهلية ٬ ورد الاعتبار المفقود إلى جماهير الخلق على اختلاف الألوان والأوضاع .

كان العرب فى جاهليتهم يزدرون السود ويؤخرون منزلتهم ٬ حتى أن الشاعر الفارس عنترة بن شداد أهدرت مكانته الاجتماعية ٬ وأقصاه أبوه عنه لا لشيء إلا للونه الأسود . مع أن الرجل من الشجعان المقاديم والشعراء المعدودين .

فلما ظهر الإسلام كان المؤذن الأول لرسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` بلالا ٬ العبد الأسود ٬ وكان صوته هو الذى ينادى جماعة المؤمنين خمس مرات كل يوم للوقوف بين يدى الله .

ولما فتحت مكة صعد بلال هذا فوق الكعبة المقدسة ٬ يرفع عقيدته بشعار الإسلام. “ الله كبر الله كبر . . أشهد أن لا اله إلا الله “.

وتجادل مرة الصحابى المعروف أبو ذر الغفارى مع أحد الزنوج . واشتط به الغضب فقال له ` يا ابن السوداء ` . وسمع الرسول ` صلى الله عليه وسلم ` هذه الكلمة النابية ٬ فأنكرها أشد الإنكار وقال لأبى ذر: `أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية. `

ومما قاله: ` طف الصاع ٬ طف الصاع ٬ ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح ` .

وقد ندم أبو ذر على فعلته ٬ وأثرت كلمات الرسول` صلى الله عليه وسلم ` فى نفسه فألصق خده بالأرض ٬ وقال للأسود : ` قم فطأ على خدى ` .

وبهذا التعليم المبين الحاسم محا الإسلام من المجتمع كل نزعة إلى التفرقة العنصرية .

والحق أن لون الجلد الإنسانى لا يسوغ أن يكون مثار تقديم أو تأخير ٬ فالمدار على الخلق والسلوك فى تحديد القيم .

لقد كان عبادة بين الصامت وهو من الصحابة الأجلاء أسود اللون ٬ وكان رئيس الوفد الذى أرسله عمرو بن العاص لمفاوضة المقوقس عظيم القبط . فضاق به المقوقس لسواده وبسطة جسمه ٬ وطلب من الوفد أن يتكلم غيره.

فردوا عليه : إن هذا أفضلنا رأيا وعلما ٬ وهو سيدنا وخيرنا ٬ وقد أمره الأمير علينا فلا نخالف أمره . فعجب المقوقس : كيف يكون الأسود أفضلهم ! فردوا عليه بأن الألوان ليست ما تقاس به الرجال ٬ وأن الإسلام لا يعرف فى تقويم البشر إلا الخلق والمواهب الفاضلة .

ومما عرفته مجامع الجاهلية ٬ ولا يزال معروفاً فى شتى المجتمعات ٬ أن يكون الفقر منقصة لأصحابه ٬ وأن تكون الطبقات الفقيرة محقورة الشأن مضيعة الفرص.

وقد استنكر الإسلام هذه النظرة ٬ وأقصاها إقصاء تاما فى تقديره للأفراد والجماعات ٬ وعول على القيمة الإنسانية المجردة فى رضاه وسخطه ٬ وقدحه ومدحه ٬ دون أى حساب للغنى والفقر ٬ والإقلال والإكثار . “ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما “ .

ونظرا لأن قلة الثروة كانت عاملا ملحوظا فى حرمان طوائف غفيرة من حقوقها الإنسانية ٬ ومكانتها الاجتماعية فقد انحاز الإسلام إلى جانب أولئك المستضعفين حتى تتساوى كفتهم مع غيرهم ٬ ويرتفع عنهم ما نزل بهم من بلاء وهوان .

جاء عن النبى ` صلى الله عليه وسلم ` أنه سأل جليسا له ٬ وقد مر بهما رجل : ما رأيك فى هذا ؟

فقال : هذا رجل من أشراف الناس ٬ هذا والله حرى إن خطب أن يزوج ٬ وإن شفع أن يشفع ٬ وإن قال أن يسمع لقوله.

فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم مر رجل آخر فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ما رأيك فى هذا ؟

فقال : يا رسول الله ٬ هذا رجل من فقراء المسلمين . هذا والله حرى إن خطب ألا يزوج ٬ وان شفع ألا يشفع ٬ وإن قال ألا يسمع لقوله . فقال رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` : “ هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا “.

وعن مصعب بن سعد بن أبى وقاص قال : رأى سعد أن له فضلا على من دونه!. فقال رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` : “ هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم “ ؟

وقال : ` ابغونى فى ضعفائكم ٬ إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم` .

والضعفاء ليسوا هم العجزة والمرضى ٬ إنما هم سواد الشعب ممن لا تلمع أسماؤهم ولا تشتهر أشخاصهم وأعمالهم ٬ فهم الجنود المجهولون فى أيام الحرب والسلم .

ومعنى قول الرسول ` صلى الله عليه وسلم ` : ابغونى بينهم ٬ أى لا تبحثوا عنى بين السادة والكبراء ٬ ولكن ابحثوا عنى وسط هذه الجماهير ..

وقد تضطرب المجتمعات الإنسانية ويختل ميزانها وتنقسم إلى أشراف وسوقة أو سادة ورقيق . والإسلام طبعا عدو لهذه القسمة الجائرة . وقد بلى فى مكة باختبار لموقفه من هذه الحال ، وكان ذلك لأول عهده بالحياة ووطأة الهاجمين عليه من أصحاب الحول والطول `

إن دخول المستضعفين فى هذا الدين أزعجهم وخافوا مغبته ٬ فأرسلوا لمحمد ` صلى الله عليه وسلم ` يقولون له : اطرد هؤلاء عنك ٬ ونحن لا نرى بأسا من اعتناق دينك .

فرفض الرسول ` صلى الله عليه وسلم ` هذا العرض .

فبعثوا إليه مرة أخرى يقولون له : إن لم يكن من بقائهم بد فليكونوا فى مؤخرة الصفوف ونتولى نحن الصدارة .

ففكر الرسول ` صلى الله عليه وسلم ` فى هذا العرض الجديد . إن الصدارة إنما يظفر بها أهل الكفاية وأصحاب السبق فى الإيمان والعمل .

أيمكن أن نكل المؤمنين إلى إيمانهم ونتألف هؤلاء الأقوياء بإجلاسهم فى مكان الصدارة ٬ حتى إذا تشربت أفئدتهم الإيمان كاملا تركوا هذه العنجهية من تلقاء أنفسهم ؟

وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه المقابلة نزل الوحى يحسم القضية كلها: “ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ٬ وكذلك فتنا بعضهم ببعض”.

وهكذا ألقت السماء كلمتها إن المبادئ لا يضحى بها ولو من ناحية الشكل ومن دخل فى دين الله فليخلع عن نفسه أردية الجاهلية كلها ولا يشعر بأنه أرجح من غيره لامتيازات مبهمة مدعاة ` .

صنع الإسلام من العرب أمة جديدة ٬ وصب أوضاعها الاجتماعية في قالب سماوى راق ٬ فخرجت على الناس تحمل رسالة الحق والخير وتريهم من نهج حياتها وطريقة التعامل بين أبنائها أن الإنسان العربى كائن آخر .

كائن ينفى عقله الخرافات ويطرد قلبه الرذائل ٬ ويرفض سلوكه الهوان ٬ وينطلق على ظهر الأرض مدفوعا ببواعث الصدق والعدالة متحريا مرضاة الخالق ٬ وكرامة المخلوق مسترسلا مع نداء الطبيعة البشرية المتعشقة للكمال والسيادة ٬ نداء الفطرة الأصلية ٬ وهل الإسلام إلا هذه الفطرة ؟ “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون” .

والعرب عندما اتصلوا بجيرانهم الأقوياء من فرس ورومان ٬ وعندما اشتبكوا معهم في معارك دامية ٬ لم يكونوا عنصرا يدعى التفوق الجنسى ويخضع الآخرين لامتيازه المادى والأدبى .

كلا .. كلا .. فلا العرب الأولون تطرق إلى نفوسهم هذا الزعم ٬ ولا القرآن الكريم تضمن لفظا واحدا يبيح هذه الدعوى .

وإنما بين القرآن الكريم أن فضل الأمة الجديدة يعود للخصائص المعنوية التى اقترنت بها وحسب .

فالعالم من حولهم عصفت به المظالم وأحاطت به الأرزاء والمغارم .

والحقيقة الإنسانية فى كلتا الدولتين الكبيرتين شوهها الاستبداد السياسي `والفوضى الاجتماعية وكان العرب وحدهم القادرين على محو هذا المنكر ٬ وإسداء ما تفتقر إليه الشعوب من معروف . وفى هذا يقول الله تعالى : “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” .

بهذه الأوصاف ٬ وبهذه الأهداف ٬ خرج العرب من الجزيرة ليحرروا مصر والشام وغيرها من سطوة الرومان وبأسهم ٬ وليحرروا الجماهير العانية من أهل فارس ٬ وليرى هؤلاء وأولئك ألوانا من العدالة والكرامة والحرية والمساواة لم يعهدوها فى حكامهم من قبل.

لم يكن خروج العرب من جزيرتهم غزو اجتياح وتملك كما يزغم المتعصبون الذين يريدون تلوين التاريخ بما فى نفوسهم من سواد . إنما كان خروجهم حرب تحرير وإنقاذ ٬ أثمرت السعادة للبلاد المفتوحة قبل أن تثمر الخير للفاتحين أنفسهم .

وكانت حقوق الإنسان الجدير بالخلافة عن الله فى أرضه أول ما قرر الإسلام فى الأقطار التى آلت إليه .

ولذلك لم تمض برهة طويلة حتى كان النابغون من الأجناس الأخرى يؤمون العرب أنفسهم فى المحاريب ويدرسون الكتاب والسنة فى المدائن والقرى .

لقد أصبحوا سادة وقادة لهؤلاء العرب فى بعض الميادين ٬ وأصبحوا مساوين لهم فى ميادين أخرى .

ذكر السخاوي فى شرح ألفية الحديث للعراقي أن هشام بن عبد الملك قال للزهرى ٬ وهو إمام الحديث : من يسود أهل مكة ؟ قال : عطاء . قال هشام : فيم سادهم ؟ قال : بالديانة والرواية . فقال هشام : نعم من كان ذا ديانة حقت له الرياسه ٬ ثم سأله عن اليمن ومصر والجزيرة وخراسان والبصرة والكوفة ٬ فأخذ الزهرى يعد له سادات البلاد وكانوا من الموالى ٬ حتى أتى على ذكر النخعى ٬ فقال : إنه عربى ٬ فقال هشام : والله ليسودن الموالى العرب ٬ ويخطب لهم على المنابر .

هذا الوضع يعتبر نجاحا رائعا للدعوة الإسلامية .

وقد تقع أخطاء من بعض العرب الذين يغريهم السلطان فيزعمون أن لهم حقا يمتازون به على غيرهم . لكن هل يسكت قادة الإسلام وحملة دعوته على هذه الأخطاء ؟ لا .. إنهم يعالجونها بصرامة ٬ ليؤكدوا طبيعة الإسلام فى احترام ` الإنسان ` وإعزاز جانبه ورفعة شأنه ٬ مهما اختلفت الأجناس والمذاهب والأديان .

عندما كان عمرو بن العاص واليا على مصر فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ٬ اشتبك ابن له مع أحد المصريين ٬ وأغراه سلطان أبيه فضرب الرجل .

ومصر يومئذ حديثة عهد بالفتح ٬ والمنظور أن يستكين المضروب لابن القائد الفاتح الذى هزم أكبر دولة فى الأرض ٬ ورمى بجيشها فى البحر الأبيض .

لكن المجنى عليه كان يأنس فى الإسلام وحكمه غير هذا الذى نزل به . فأقسم ليبلغن شكواه إلى أمير المؤمنين عمر.

واستحمق الولد الضارب ٬ فقال : افعل .. فلن تضيرنى شكواك ٬ أنا ابن الأكرمين ..!!

أرأيت هذا الإدلال بالنسب المدعى ؟

فبينما كان عمر بن الخطاب فى خاصته وعمرو بن العاص وابنه فى المجلس والمدينة غاصة بالوفود فى موسم الحجيج قدم المصرى المظلوم وقال لعمر : يا أمير المؤمنين إن هذا وأشار إلى ابن عمرو ضربنى ظلما ٬ ولما توعدته بالشكوى إليك ٬ قال : افعل فلن تضرنى شكواك أنا ابن الأكرمين .

فنظر عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص نظرة استنكار وقال له هذه الكلمة العظيمة : ` متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ` ثم توجه إلى الشاكى ٬ وناوله سوطه ٬ وقال له : اضرب ابن الأكرمين كما ضربك .

وإن عمر أنصف الإسلام بهذا الحكم من نزق بعض الناس .

والإسلام يعرف ويقدم من سيرة الرسول نفسه ٬ ومن سير الخلفاء الراشدين الذين جاءوا من بعده ` عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ٬ عضوا عليها بالنواجذ ` والمفاهيم التى قررها الإسلام لوظيفة الحكم وأشخاص الحاكمين كانت شيئا جديدا كل الجدة بالنسبة لما عرف فى دنيا الفرس والرومان يومئذ فالإسلام سوى بين الحاكم والمحكوم فى الحقوق العامة ٬ واعتبر الحكم وظيفة لخدمة اجتماعية محدودة السلطة لقاء أجر معين .

وهذا المعنى كان مجهولا كل الجهل بل منكورا كل النكر فى الإمبراطوريات الضخمة التى تقسمت أقطار العالم .

فالقيصر المقدس فى القسطنطينية وملك الملوك الحاكم بأمره فى المدائن رجال فوق البشر . وذواتهم مصونة لا تمس . وهم لا يكلفون بخدمة الرعايا ٬ وإنما تكلف الرعايا بخدمتهم .

وفي منطق هذه السيادة الباهرة ما قال فرعون مصر لقومه : “أنا ربكم الأعلى” .

وما قال ملك فرنسا لقومه : ` أنا الدولة ` .

فكيف يتصور الإسلام رئيس الدولة ؟

إن الله أمر صاحب الرسالة أن يعرف نفسه للناس : “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي”. فلما تولى أبو بكر الخلافة بعد رسول الله ` صلى الله عليه وسلم ` خطب الناس فقال `: أيها الناس إنى وليت عليكم ولست بخيركم . فإن أحسنت فتابعونى ٬ وان صدفت فقومونى . القوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه ٬ والضعيف فيكم قوى حتى آخذ له الحق . أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت فلا طاعة لى عليكم `.

وجاء عمر بعده فقال : ` لوددت أنى وإياكم فى سفينة فى لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه ٬ وإن جنف قتلوه ٬ فقال طلحة : وما عليك لو قلت : وإن تعوج عزلوه ٬ فقال عمر : لا .. القتل أنكل لمن بعده `.

وكتب لأبى موسى الأشعرى واليه على الكوفة يقول : لا يا أبا موسى .. إنما أنت واحد من الناس غير أن الله جعلك أثقلهم حملا ٬ إن من ولى أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده ` .

وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان حينما ضاق الناس ببعض تصرفاته : `إنى أتوب وأنزع ٬ ولا أعود لشىء عابه المسلمون . فإذا نزلت من منبرى فليأتنى أشرافكم فليرونى رأيهم . فوالله لئن ردنى الحق عبدا لأذلن ذل العبيد ` .

وقال عمر بن الخطاب للناس يوما : ` ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية ؟ ` . يعنى أتكفى شهادته فى إقامة الحد عليها ؟؟ فقال له على بن أبى طالب : ` يأتى بأربعة شهداء أو يجلد حد القذف شأنه فى ذلك شأن سائر المسلمين ` .

إن هذه الثورة الإسلامية الهائلة فى سياسة الحكم ووظيفة أصحابه هى التى أطلقت جيوش العرب من مكانها فى الجزيرة لهدم عروش الجبارين وإقرار مبدأ المساواة بين الناس .

إن أولئك المسلمين الأحرار عدوا القياصرة والأباطرة أصناما حية ورأوا من إخلاصهم لكلمة التوحيد أن تتحول هذه الأصنام إلى أنقاض.

فليس من توحيد الله أن يثنى إنسان صلبه ثم يهوى على الثرى ليقبل نعل رجل ما ٬ تصفه الأساطير بأنه إمبراطور !!.

والغريب أن تلك الصور التى هدمها الإسلام من قرون طوال لا تزال لها بقايا بين الناس حتى الآن !!..

• سر هذه المساواة :

وظاهر أن مبدأ المساواة الذى اعتنقه المسلمون ٬ محا من أفهامهم وأقطارهم نظام الطبقات نابع من عقيدة التوحيد ذاتها ٬ وما انبنى على عقيدة التوحيد هذه من عبادات وتعاليم .

فقد تعلم المسلمون من أصل دينهم أن الذى تعنوا له الوجوه ٬ وتسجد فى حضرته الأرواح والأجساد وتستجيب لندائه وحكمه الخاصة والعامة هو قيوم السماوات والأرض وحده .

وأن البشر قاطبة ينتظمهم سلك العبودية المطلقة لله وحده .

وأن من حاول التطاول فوق هذه العبودية السارية فى الأشخاص والأشياء وجب قمعه حتى يستكين فى مكانته لا يعدوها . “إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ٬ لقد أحصاهم وعدهم عدا ٬ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا” .

وخالق البشر زودهم بقوى مختلفة ومواهب شتى ليختبر كل امرىء منهم فيما آتاه ٬ وليسأله يوم العرض ماذا عمل به ..؟؟

فليس صاحب السلطة فى هذه الدنيا رجلا محظوظا شاءت له الأقدار أن يتحكم .

ولا صاحب الثروة رجلا كذلك شاءت له الأقدار أن يتمتع . لا .. فكلا الرجلين مختبر فى وضعه معرض للنجاح والفشل كأى إنسان آخر مؤاخذ أو مثاب وفق استقامته أو عوجه .

وعمله موضع الملاحظة الدقيقة من الله ٬ ومن الناس ٬ قال تعالى : “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون” .

ثم إن المسلم فى نظرته إلى الناسقويهم وضعيفهم يعرف أن زمام أمورهم فى النهاية بين يدى الله . وأن هذا الزمام لن يفلت منه أبدا ولن يستطيع أحد إسقاطه من بين يديه .

ومن ثم فهو متوجه برغبته ورهبته . وقلقه أو طمأنينته إلى الله وحده ٬ غير هياب لجبار عنيد ٬ أو مبال بذى بأس شديد ٬ وقد وثق من قول الله له : “وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ٬ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير”.

بهذا الروح المفعم باليقين والإباء أبى الإنسان المسلم الاعتراف بأن لأحد من الخلق اختراق أسوار المساواة العامة والاستعلاء على غيره من الناس .

ومن هذا الفهم الإسلامى الحق قال الشاعر :

إذا الملك الجبار صعر خده * مشينا إليه بالسيف نعاتبه

----------( يُتبع )----------

#محمد_الغزالي #حقوق_الإنسان

كلمة حرة
نشر في 15 تموز 2018
QR Code
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع
تابع
متابع